أصبح من المستغرب هذه الأيام أن يكون مصدر الأخبار عن أحداث وتحركات تشهدها مصر، أو تكون طرفاً فيها، هو وسائل الإعلام الإسرائيلى. لعلك تابعت ما نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية حول اللقاء الذى جمع الرئيس برئيس الحكومة الإسرائيلية بحضور الملك عبدالله ملك الأردن، وقد علقت الرئاسة على ما نشرته الصحيفة، وأكدت أنها نشرت معلومات مشوهة وغير دقيقة حول تفاصيل اللقاء الذى تم بالفعل.. بعدها فوجئنا بوزير الدفاع الإسرائيلى «ليبرمان» يلمح لـ«الميديا» الإسرائيلية بأن إسرائيل قامت بقصف إرهابيين «دواعش» فى سيناء، رداً على الصواريخ التى أطلقت على إيلات ثم أشكول. وهو الخبر الذى نشرته مواقع ونوافذ إعلامية مصرية وعربية، ولم يصدر تعليق رسمى عليه حتى الآن.
لماذا يؤدى المسئولون لدينا على هذا النحو، ولا يبادرون إلى نشر تحركاتهم على المستويات الداخلية والخارجية، قبل أن يتطوع غيرهم بالإعلان عنها؟!
الأسباب التى تدفع إلى هذا النمط من الأداء معلومة بالضرورة، فقد تتمثل فى الحرج من تحركات معينة، أو الخوف من إحباطها لو تم الإعلان عنها، أو النظر إلى الشعب على أنه مريض بداء «سوء الهضم»، وأن عقله لا يستطيع هضم كل المعلومات، تماماً مثل معدة المريض، وكما يحدد الطبيب للمريض أنواع الأطعمة التى يجوز له أن يتناولها، تحدد السلطة للشعب نوع المعلومات التى يجب أن يعرفها، وتستبعد من القائمة ما ترى أن معرفته تؤدى إلى سوء الهضم العقلى!
أياً كانت الأسباب فإن هذا النمط من الأداء يغرد خارج المعادلة الزمنية التى نعيشها. فمهما كانت قدرة السلطة على الحجب أو التعتيم، فإنها لن تستطيع بحال تأمين المصادر الأخرى التى يمكن أن يحصل من خلالها المواطن على المعلومات، فما تحجبه أنت سينشره غيرك، وما تعتم عليه، سيتطوع آخر بتسليط الضوء على تفاصيله. ولن تجنى السلطة من وراء ذلك غير الحرج أمام شعبها.
نشر المعلومات المحجوبة أو المعتم عليها من مصدر أو جهة أخرى يضع من سقط فى فخ «الحجب والتعتيم» أمام خيار من اثنين، الخيار الأول أن يقوم بالتعليق عليها، كما فعلت الرئاسة مع تقرير «هآرتس»، مع التشكيك فى درجة دقة المعلومات وتوجيه اللوم إلى من قام بـ«كشف المستور»، فى وقت يقع فيه اللوم الأكبر على من اتخذ قراراً بالحجب، فما الذى منعه منذ البداية أن ينشر المعلومات الدقيقة، ويقدم التفسير الأصح للحدث من وجهة نظره؟!
الخيار الثانى هو السكوت وعدم التعليق، وهو أمر تسلكه العديد من مؤسسات الدولة، إزاء ما تنشره وسائل الإعلام الأجنبى حول بعض الأحداث والتحركات التى تشهدها مصر. وفى تقديرى أن السكوت فى هذا المقام ليس من «ذهب»، بل من «صفيح»، لأنك تترك الفرصة كاملة لغيرك كى يروى ما يشاء من معلومات حول الحدث، ويشوه فى الحقائق كما يهوى، ومن جديد يقع اللوم على من أقدم على «السكوت» وليس من تطوع بـ«الكلام»!
التفكير القديم لا يصلح للزمن الجديد، والأساليب التقليدية العتيقة فى إدارة الشعوب لا تصلح مع معادلة إعلامية جديدة جوهرها «الإفشاء» وليس «الإخفاء»، ومن لا يستوعب دروس التاريخ ومعطيات الواقع، يخرج من التاريخ، ويفقد السيطرة على الواقع.