بعد أن يستعرض د.محمود إسماعيل معنا الأسباب المجتمعية والموضوعية للاختلاف بين الفقهاء الأربعة فإنه يلاحظ أن انتقال كل من المذاهب الأربعة إلى الأمصار الإسلامية قد فرض على كل منها متغيرات عكستها هذه المجتمعات الجديدة. فمذهب الإمام مالك إذ أتى إلى مصر على يدى الليث بن سعد توسع فى قبول مبدأ الاجتهاد ليتلاءم مع المجتمع الجديد ومشكلاته، وعندما انتقل إلى المغرب والأندلس وأصبح المذهب الرسمى ازداد باب الاجتهاد انفتاحاً حتى أصبح بعيد الصلة عن منبعه الأصلى عندما كان فى الحجاز بل أوشك أن يصبح قريباً من مذهب أبى حنيفة. أما مذهب أبى حنيفة فقد ذاع وانتشر فى المجتمعات ذات النشاط التجارى المتعاظم فى آسيا الوسطى. والإمام الشافعى واضع علم أصول الفقه حاول إنجاز مشروع تشريعى عام لكنه لم يستطع لأنه فضل «الأخذ بالنص على الرأى فقد رفض الاستحسان والاستصلاح وضيّق من باب الاجتهاد». ويقول إسماعيل «إن محمد بن حسن الشيبانى حاول تجديد المذهب الشافعى بعقد مصالحة بينه وبين مذهب أبى حنيفة عبر صيغة عملية بتفريغ المسائل من الأصول لكن المذاهب الأخرى رفضت هذه المصالحة فحقيقة الأمر هى أن الخلاف بين المذاهب كان يعكس صراعاً اقتصادياً اجتماعياً فى الأساس» (صـ22). لكن د.محمود إسماعيل يعيد تذكيرنا بمسألة مهمة جداً تجاهلها أو تناساها عن عمد كثيرون فغابت عن فكرنا المعاصر وهى أن «الخلافة العباسية قد رفضت فقه هذه المذاهب كلها فى تشريعاتها. وقام الخليفة هارون الرشيد بتكليف القاضى أبويوسف بوضع قانون عام مكتمل فقهياً يفيد من الفقه القائم ويتسم بالصبغة العملية لمواجهة المشكلات التى أبرزها واقع الإمبراطورية الكبرى التى كان العباسيون يحكمونها». ويقول إسماعيل «إن أبا يوسف كان مؤهلاً لهذه المهمة فقد مارس القضاء وتعرف على مشكلات الواقع واكتسب خبرة عملية مكنته من إنجاز مشروع تشريعى عملى يفى باحتياجات الدولة دون تناقض مع مبادئ الشريعة».. وإن كان «إسماعيل» يؤكد أن «أبا يوسف» لم يتورع عن استخدام الحيل فى صياغة تشريع مقبول وعملى. وقد ضمن هذا التشريع فى كتابه «الخراج» الذى يعد بحثاً رائعاً فى الفقه العملى جاء نتيجة سعة أفق مكنته من الاستفادة من مختلف مذاهب الفقه النظرى برغم اختلاف توجهاتها، كما أنه اعتمد على العقل والنقل معاً. وقد أخذت الخلافة العباسية بالكثير من آرائه المستنيرة فكان ذلك من أهم أسباب الانتعاش الاقتصادى والتجانس الاجتماعى والازدهار العلمى والفكرى والثقافى» (صفحة 23). وليأذن لى القارئ أن أتوقف عند حيلة شديدة الذكاء استخدمها محمود إسماعيل دون التوقف لشرحها فأتت وكأنها قد أتت عرضاً عبر منطق لا يحتاج لنقاش وهو حديثه عن «الفقه النظرى» و«الفقه العملى» بما يفتح المجال واسعاً أمام الفقه العملى لاستحداث تطبيقات متلائمة مع حاجات الإنسان المعاصر ومع العقل والعلم والشريعة معاً (صفحة 24). وإلى هنا ويصيح محمود إسماعيل ساخطاً على من سماهم «فقهاء السلطة والمسئولين» والذين أكد أنهم المسئولون عن التردى شأنهم شأن أسلافهم الذين قال عنهم أبوالفرج بن الجوزى «وأصبح هَمُّ هؤلاء الفقهاء الانشغال بالمفاخرات والمباهاة، وربما لم يعرفوا الحكم فى مسألة صغيرة تعم بها البلوى، ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم لهم وترك الإنكار عليهم وربما رخصوا لهم ما لا رخصة فيه لينالوا من دنياهم عرضاً فيقع الفساد»، ثم يترك محمود إسماعيل فقهاء السلطان القدامى وقول ابن الجوزى فيهم ليأتى إلى واقعنا المعاصر فيورد حكم باحث معاصر عليهم فقال: «فغالب العلماء لم يأتوا بكبير اجتهاد وليس لهم أقوال تعتبر فى المذاهب، وإنما هم ناقلون اشتغلوا بفتح ما ألفه ابن الحاجب، ثم خليل وابن عرفة وأهل القرون الوسطى، لقد قضوا على الفقه وعلى من اعتمد على توليفهم (من توليف وليس تأليف) وترك كتب الأقدمين من الفقهاء.. فجمدت الأفكار وتخدرت الأنظار بسبب الاختصار» (صفخة 25). ويمضى د.إسماعيل عبر كتاب ممتع ليؤكد أيضاً أن تجديد الفقه يشترط تجديد علم التفسير وعلم الحديث (صفحة 42). والآن هل يأذن القارئ والدكتور محمود إسماعيل أن أكتفى بما قدمت.. فالكتاب «التراث وقضايا العصر» يضم فى كل صفحة ما يستحق الإشادة والإشارة، ولو أطلنا ما اكتفينا بعشرات المقالات. ولكن وقبل أن نغادر تكفينا ويكفى «إسماعيل» تأكيده الملهم على دور «المؤرخ-المفكر» وعلى أن الأمر هو تجديد فى علوم الفقه والتفسير والحديث وليس محاولة القول بتجديد خطاب يستحيل تجديده باستخدام أفكار ومعطيات فقهية وتفسيرات نصية والالتزام بأحاديث تحتاج إلى إعمال عقل وعلم وفهم معاصر فى فرزها.
ويا دكتور محمود إسماعيل.. سلمت وسلم قلمك المبدع وألف شكر على إلهاماتك.