مسيحيو العريش يروون حكايات الرحيل: «مابقالناش عيش فيها»
أسرة قبطية تصل إلى الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية
كان الهدوء يشوبه الحذر فى مدينة لا ينقطع صوت الرصاص والانفجارات من أجوائها، سكان المدينة الصغيرة يعرفون القواعد جيداً، ويلتزمون بمواعيد حظر التجوال، وبينما يطارد الجيش الإرهابيين فى أوكارهم، والخناق يضيق عليهم، قرر المسلحون إدخال الأقباط فى المعركة ليشبعوا رغباتهم الإجرامية، وبناءً على ذلك ترك العشرات من الأقباط المقيمين فى المدينة الساحلية منازلهم، بعضهم قرر البوح بما رآه لـ«الوطن».. «بيتر»، أحد المسيحيين الذين غادروا المدينة؛ خوفاً من بطش الإرهابيين، استغل إجازة نصف السنة وغادر «العريش»، مدينته التى عاش ودرس فيها طوال 21 عاماً، لم يكن الحال قد وصل حينها إلى ما هو عليه الآن، وعلى الرغم من ذلك يقول «بيتر» إن المسيحيين لم يكن مرغوباً فى وجودهم منذ وقت طويل، لكنهم كانوا يستطيعون الخروج وصداقة المسلمين والتعامل معهم بشكل يومى دون خوف، لكن فى النهاية لم يجد مفراً من المغادرة بعد أن سمع خبر وفاة أكثر من شخص مسيحى من العريش يعرف أغلبهم.
«بيتر»: الإرهابيون يعرفون بيوت المسيحيين وأماكن دراستهم وعملهم.. و«سمير»: ابنى تعرض لمحاولة قتل وقالوا له: «لو شفناك هنقتلك»
يقول الشاب المسيحى إنه من أسرة ميسورة الحال متعلمة انتقل والده للعيش فى المدينة قبل ما يزيد على 30 عاماً، لكن الأمر أصبح مرعباً فى العريش وفقاً له.
الإرهابيون يعرفون البيوت المسيحية وقاطنيها وأماكن عملهم ودراستهم: «الأيام الأخيرة كنت بخاف أنزل من البيت»، وفقاً لكلامه، وانقطع عن الذهاب لجامعة العريش حيث يدرس فى قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب، ويسعى فى الوقت الحالى لنقل أوراقه إلى إحدى الجامعات فى القاهرة أو حلوان، وقال «بيتر» إنه لم يتأكد بعد من تسهيل الإجراءات على أبناء شمال سيناء فى نقل الجامعات لكنه «سمع» أن الأمر لن يكون صعباً.
لحسن الحظ يمتلك «بيتر» بيتا فى منطقة المرج، فلم يكن توفير مأوى مناسب ضمن مشاكله، لكن أحداً من المسئولين لم يتواصل معه أو مع أى أسرة مسيحية، وفقاً له، ولكن قامت الكنيسة بهذا الدور على أكمل وجه، يقول «بيتر» إنها وفرت مساكن لكثير من الأسر المسيحية التى انتقلت مؤخراً من العريش إلى القاهرة والإسماعيلية وغيرها من المحافظات القريبة من عاصمة شمال سيناء.
«لينا»: «تلقيت تهديدات على فيس بوك.. ومرتب زوجى توقف لأنه ترك عمله فى العريش»
ومن الطالب إلى المعلم الذى ترك مدرسته التى يديرها خلفه، وبيته وأمواله، انتقل بعيداً من «العريش» شمال شرق سيناء إلى شمال شرق العاصمة، منذ ما يقرب من شهر، توقع «سمير»، الرجل الخمسينى، الأحداث التى ستتوالى فقرر الابتعاد مبكراً، وبدأ فيما بعد مساعدة الأسر المسيحية التى تستوطن العريش وأصبح حلقة الوصل بينهم وبين الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، فهو يقول إنها الجهة الوحيدة التى تسعى سعياً مضنياً خلف مساعدة تلك الأسر التى تقطعت بها سبل النجاة داخل العريش.
«سرقوا البيوت وحرقوا الجثث والمحلات»، هكذا بدأ الرجل الخمسينى كلامه، وقال إنه خلال 10 أيام قتل ما يقرب من 8 أشخاص مسيحيين، وفقاً لـ«أستاذ سمير»، لذلك ساعد فى انتقال ما يقرب من 50 أسرة مسيحية إلى الإسماعيلية والقاهرة وبعضها عاد للصعيد مسقط رأسهم.
تهديدات مباشرة للأسر المسيحية وغير مباشرة، وفقاً لـ«سمير»، فابنه تعرض لمحاولة قتل على يد الإرهابيين عندما فوجئ بفوهة بندقية على رقبته، وأحدهم يحاول ابتزازه، «لو شفناك هنقتلك، إنت اتعرفت إنت وأهلك لينا خلاص.. اطلعوا برا البلد»، يقول الأب إنها العناية الإلهية وحدها هى التى أنقذته، وأبعدت عنه القتل فى أثناء عبور حملة للجيش فر منها الإرهابيون خوفاً.
بعد تلك الواقعة بقليل ورغم أنه يسكن العريش منذ عام 1983، كان القرار الحاسم «ترك المدينة»، الاختيارات المتاحة آنذاك وفقاً لـ«سمير» إجبارية: «الحياة» أو «الشغل والبيت وقطعة أرض 150 متراً مربعاً»، ترك كل شىء خلفه، يعيش اليوم على «التراب» فى بيت متواضع يملكه فى القاهرة، فقط شنطة ملابسه بلا موبيليا أو عفش، لا يوجد لديه أموال تمكنه من الصرف على أسرته سوى ما جمعه من عمله الذى تركه قسراً إلى القاهرة. وعما يملكه فى العريش يقول: «لو الدنيا بقت أمان هبقى أروح أجيب حاجتى، إنما دلوقتى مضمنش ممكن أتقتل بدم بارد».
وعلى الرغم من علاقات سمير المتشعبة مع الأسر المسيحية فإنه لم يسمع بنبأ قدوم وزيرة التضامن الاجتماعى إلى الإسماعيلية للقاء الأسر المسيحية التى انتقلت من العريش.
رسالة تهديد أتتها فجراً على صفحتها بـ«فيس بوك» تحوى مقاطع فيديو واعترافات لفتيات تحولن من المسيحية للإسلام، وتهديد صريح لها ولأسرتها «ادخلى الإسلام قبل فوات الأوان»، لم تستطع «لينا» تفسير تلك الرسالة سوى أنها تهديد مباشر بالقتل، بعدها بيوم واحد تركت مدينتها العريش إلى الإسماعيلية، تاركة خلفها كل شىء.
ظروف المعيشة قبل ذلك لم تكن مواتية للفتيات المسيحيات فى العريش وفقاً لـ«لينا»، فهى شخصياً تعرضت للكثير من السباب والشتائم إذا ما خرجت للشارع دون حجاب، وهو الأمر الذى يفسره كل من يراها على أنها «مسيحية»، وبالتالى كان عليها دوماً أن تأخذ حذرها وتتجنب النزول للشارع فى الليل: «ولازم ألم شعرى قوى عشان ميبانش»، تقول «لينا» إن الشهور الأخيرة كانت أكثر رعباً فكانت تتجنب حتى الخروج إلى البلكونات بشعرها خوفاً من رصد الإرهابيين لها ولبيتها.
الفتاة التى أتمت عامها الـ23 تخرجت فى كلية التربية العام المنصرم، وبينما تبحث عن وظيفة لائقة لها كمدرسة فى إحدى المدارس وجدت نفسها فجأة فى محافظة أخرى دون مسكن، فقد باعت «لينا» شبكتها لدفع 15 ألفاً قيمة تأجير شقة بالعريش، وهى كل ممتلكاتها التى حوت عفشها ومتعلقاتها، تقول: «مشيت بشنطة هدومى ومش معايا ولا مليم»، لكنها استطاعت «بفضل ربنا» -وفقاً لها- إيجاد مسكن لها ولزوجها داخل الكنيسة فى الإسماعيلية بعد المغادرة.
أصبحت «لينا» ضمن فريق خدام الكنيسة لمساعدة الأسر العالقة فى العريش على المغادرة، ولا تملك أموالاً لتدبير حاجة المعيشة، فزوجها الذى عمل مدرساً بعقد مؤقت توقف مرتبه عن الصرف لأنه أيضاً ترك عمله فى العريش وانتقل معها، تقول لينا: «بعد ما ادوا لكل المسيحيين إجازات مدفوعة الأجر مؤقتاً عشان الدنيا تهدى، فجأة مش لاقيين ناكل»، وهى تحمد ربها على عدم إنجابها طوال 3 سنوات زواج: «كانت هتبقى كارثة».