ما الذى يمكن أن يكون قد حدث فى سيناء، يصلح أن يكون سبباً واقعياً لخروج مجموعة من عائلات مدينة العريش خوفاً أو فزعاً من منازلهم، وبالتبعية من روابطهم المعيشية، وهذا ثقيل للغاية على أى أسرة، لذلك يبقى دوماً هو القرار الأخير الذى يسبقه بدائل عديدة يبدو أنه تم استنفادها من قبَل هؤلاء. العائلات مسيحية، وهذه ليست ميزة نوعية، بقدر ما هى أدعى للألم، فقبلها كان هناك خروج طوعى لعائلات من مدينة الشيخ زويد، شعرت فى لحظة أنها مهددة بشكل كامل من قبَل الإرهابيين فنزحت إلى العريش لفترة مؤقتة، عملت فيها القوات المسلحة بحرية أكبر لتطهير كافة البؤر الإرهابية التى دأبت على ارتهان الحياة فى تلك القرى تحت سيف المخاطر. أنهى الجيش عمله وأصلح ما أفسده الإرهاب وأعاد تلك العائلات إلى مساكنها وقراها ومزارعها الصغيرة فى نوفمبر الماضى، لم يسمع الكثيرون عن هذا الفصل من فصول عديدة فى الحرب على الإرهاب فى سيناء، إلا ربما بعض من الصور المنشورة على مواقع إخبارية محدودة، تصور العائلات وفرحتها فى طريق العودة، لكنه حدث!
البحث عن السبب هذه المرة، فى مواجهة خروج العائلات المسيحية، له خصوصية السعى داخل شوارع مدينة العريش العاصمة ووسط أزقتها الضيقة، الكثيفة السكان افتراضاً والمتلاحمة فيما بينها، وهو أدعى لتحرى أكبر قدر ممكن من الدقة فى التدليل والتأويل معاً. عنوان المقال يصلح مدخلاً إجمالياً للتفسير، كون سيناء اليوم «بعد ثلاثة أعوام» من الحرب على الإرهاب، تقع ما بين فكى كماشة اعتياد الخطر هناك واعتياد الخبر لدينا هنا. فالإرهاب فى سقف استراتيجيته لم يكن يستهدف سوى صناعة «منطقة رخوة» تضم أكبر مساحة من الأرض والمدن والقرى، ووضع رهانه على المنطقة المتاخمة للشريط الحدودى الشرقى، وتفصيل المنطقة الرخوة هى أن تكون هناك مدن ولكنها ليست بالمدن الكاملة الأهلية، وأن يكون على تخومها قرى مع الحرص على أن تظل حائرة لا تدرى دورها، تماماً كالطرق والدروب الممتدة فى الصحارى الواقعية لكنها عملياً لا تخدم سوى الإرهابيين وتحركاتهم، فتظل هكذا معلقة فى فراغ قاتل من أنفاس البشر ومن أدوار وفاعلية حقيقية.
اعتياد الخطر خطيئة قاتلة للأمن «أى أمن»، فالفزع والانتباه ورد الفعل المدوى لسقوط ضحية برصاص العدو «أى عدو»، يذوى مع تكرار رتيب لسقوط رفاق سلاح وغيرهم من المدنيين، فيفقد الحدث رويداً الكثير من جلاله ومستلزماته. فخ تلك الخطيئة الشهير هو «الشجاعة والجلد»، فى حال البحث عن مسمى ذرائعى لرد الفعل تجاه حدث ضخم، وهو فخ حقيقى متكامل الأركان، كونه يحرم مستخدمه من التقييم الموضوعى للمشهد الذى تفوح من مكوناته رائحة الخطر، وينزع عنه القدرة على الاستشعار المبكر. فى شوارع العريش كان هناك العديد من إشارات الإنذار التى لم تلفت انتباه الأمن، ورائحة المخاطر ظلت تزكم الأنوف لشهور من دون أن يضيق بها أحد، مساحة واسعة من الغليان تعتمل فى صدور وعقول سكان مدينة العريش، لم يلتقطها أو يتفاعل معها أحد، هم يرون أنهم تحت وطأة حصار لا يفهمون مداه ولم يتقدم أحد للإجابة عن تساؤلاتهم الضاغطة، أشهر تلك الأسئلة المزدوجة «الموجهة للطرفين» ماذا يريد الأمن من أهالى العريش؟ مأزق الحيرة لدى الأهالى أنهم لم يروا أفقاً للوضع الاستثنائى الطارئ الذى حُشروا فيه، ولم تجن مدينتهم أى نصيب من أرباح «انفراجة» الانتصارات التى تتحقق على الإرهاب. وفى مساحة حيرة مقابلة يقف الأمن لا يمتلك إجابة متكاملة عن تصنيفه وتقديره لهؤلاء البشر، الذين يزاحمون المشهد فيما بينه وبين التنظيم الإرهابى، هل يصنفهم بيئة حاضنة لهذا التنظيم أم ضحايا يستهدف حمايتهم، أم هم خليط ما بين هذا وذاك.
الاعتياد أطال فترة الحيرة لكلا الطرفين، فمر اغتيال الشيخ سليمان أبوحراز التسعينى الصوفى ذبحاً مروراً ناعماً، بالرغم أن الجريمة كاشفة بأن التنظيم الإرهابى فى فصل من تضييق الخناق بدأ يمزق فى اللحم الحى، وبالتبعية لن يعدم البحث عن ضحايا جدد، فلم يكن هناك أغلى من الدم المسيحى القادر على صناعة جلبة هائلة. لم يوجد الأمن بالصورة الفاعلة ووفق خطط نوعية لحماية شوارع العريش من أخطار محتملة، فى الوقت الذى انصرف فيه معظم الأهالى يتابعون مباراة الدم ما بين الأمن والإرهاب، ويترقبون أهداف كل طرف فى مرمى الفريق المقابل، وتغيم انحيازاتهم وتتبدل وفق فصول إثارة أحداث المباراة. فى زاوية ليست بالبعيدة تحت وطأة شبق المشاهدة وضمان استمرارية الخدر المضلل، تكون أفعال مثل الخيانة والوشاية والقتل بالصمت والتواطؤ، مما يمكن السماح بتمريره حتى من دون التدقيق أى من الفريقين هو من سقط فى التسلل، طالما قد جرى من خلف ظهر حكم المباراة الجهنمية.
أما نحن هنا، الجالسين فى مقصورتنا الزجاجية، نتابع بنظارات مخملية، حيث تردنا الأخبار على الشاشات المضيئة، فعلمنا يوماً أن «محكمة شمال سيناء» قد غادرت العريش العاصمة إلى مدينة الإسماعيلية، باعتبار «سيادة القانون» يمكن أن يقف على مسافة (300 كم) من قلب الحدث. ووصلنا أن هناك قراراً بعدم دخول سيناء إلا وفق ضوابط ومراجعات مسبقة، فتذرّعنا بأن «سيناء» هكذا جملة واحدة هى منطقة إرهاب، كى لا نقلق جلستنا المريحة بجهد الفحص والتدقيق ومراجعة هذا المصطلح الخانق وتداعياته فى عموميته الجاهلة. بعد سنوات أصابنا ما يصيب عادة الجالسين فى صالات العرض، حيث تحتاج إثارة شهية المتابعة قدراً مركباً من الدراما والإثارة، ليأتينا خبر خروج الأسر المسيحية مفعماً بالمزيد منهما، لعله يلفت انتباهنا.