يقول المثل الشعبى «من يديه فى الماء البارد ليس كمن يديه فى النار الحارقة»، وقياساً فمن يرى أحداث سيناء على بعد 300 كم ليس كمن يعيشها ويكتوى بنيرانها، ولكن حتى الذين يعيشون وحولهم النيران ليسوا بالضرورة يرون الأمور من المنظور ذاته، هذه هى طبيعة البشر، ولا يعنى ذلك إدانة لطرف دون آخر، بل إقرار لواقع يعكس سُنة الحياة فى التنوع والتعدد والاختلاف، العين هنا على ما يجرى فى سيناء، والسؤال كيف يراها أهلها، وما هى نصائحهم للدولة وللمجتمع حولهم؟ سوف أشير هنا إلى حواريْن مهميْن نشرتهما «الوطن» هذا الأسبوع، أولهما حوار القس غبريال وكيل مطرانية شمال سيناء ونُشر الأحد الماضى، والحوار الثانى للشيح عبدالعال أبوالسعود رئيس رابطة القبائل العربية بشمال سيناء ونُشر يوم الاثنين، الحواران جديران بالتأمل وبمناقشة مستفيضة لما ورد فيهما، خاصة كيف يمكن التصرف سواء لحماية أبناء شمال سيناء أو للقضاء على الإرهاب.
ففى حوار القس غبريال ما يمكن أن نسميه برؤية بانورامية لتطور الأعمال الإرهابية فى السنوات الأربع الماضية مع تفسير استهداف الأقباط بأنه جزء من كل، فكما يُستهدف رجال الشرطة والجيش ورجال الدين وشيوخ القبائل، يستهدف أيضاً الأقباط، مع تعمد إحراج الدولة، والحل لديه هو فى أن يقوم الجيش وهو صمام الأمان للبلد ككل بالوجود المكثف وتأمين العريش وغيرها من المراكز السكانية، لأن قدرات الشرطة حسب قوله قليلة جداً فى العريش، ولا يمكن أن توصف جهودها بالتراخى وإنما بقلة الإمكانات، بينما إمكانات الإرهابيين فى التسليح أكبر وقدرتهم على الحركة أعلى، ومن أهم رسائل القس غبريال أن التعاون مع الدولة هو الطريق الوحيد ولا مجال للضغط عليها لأننا فى مركب واحد حسب كلماته، أما هؤلاء الذين يهللون فى الخارج ويتهمون الدولة بالتقصير فى حماية الأقباط، فعليهم بالصمت وتفويت الفرصة على المجرمين الذين يسعون لإسقاط الدولة والشماتة فيها، كما قال.
أما حوار الشيخ عبدالعال ففيه رؤية مختلفة نسبياً لما يجرى فى سيناء، لا سيما فى الطريقة التى ينصح بها لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه، ويرى «إذا ما قيل إن هناك إرهاباً فى سيناء فإن المواطن فى سيناء يتعجب»، والحق أننى بعد قراءة الحوار أكثر من مرة لم أفهم المقصود بهذه العبارة، خاصة أنه يتحدث عن عمليات إرهابية تحدث ومواجهات وتبادل إطلاق النار بين الإرهابيين ورجال الكمائن من الجيش والشرطة، تستمر أحياناً ساعة أو ساعتين ولا تأتى قوات الإنقاذ السريع، وهو ما يعتبره غياباً «للخطة الواضحة للقضاء على الإرهاب»، وأنه «إذا وجدت رؤية يتم القضاء على الإرهاب فى يوم أو اثنين أو فى أسبوع أو سنة».
ويرى رئيس رابطة القبائل العربية أن الاعتداء على الأقباط يستهدف محاكاة الواقع فى الدول العربية وإيجاد ذريعة لضرب سيناء، وهو يرفض تهجيرهم ويرى مسئولية خاصة على أبناء القبائل فى حمايتهم، أما الأنفاق فهى تجارة ووراءها باشوات ولها آليات مستحيل أن تُخترق، وأن الإرهابيين والتكفيريين لا يتخفون فى قبائل سيناء وأن الجيش له رجال أكثر من الإرهابيين، وأن الآخرين ينشطون أكثر فى ساعات حظر التجوال، وأن القضاء عليهم يتطلب «تحديد الإرهاب بالأيديولوجيا والعقيدة وبالكيفية والنوع والدعم والذخيرة والتحركات، وثانياً ممنوع ظهور أى مظاهر أمنية فى العريش أى عدم الظهور باللبس الميرى وكل الشغل استخبارات من الأهالى ومن الأمن، وبالتالى لن يجد الإرهاب من يضربه».
وكما هو واضح يلتقى الحواران فى إدانة استهداف الأقباط ويربطان الأمر بخطط الجماعات الإرهابية لإحراج الدولة أو الإعداد لعمل خارجى يَضُر الوطن ككل وليس سيناء فقط، أما النقطة التى تستدعى الانتباه هنا فتتعلق بالفكرة التى يتصور كل طرف أنها الأكثر فائدة لمواجهة الإرهابيين والتكفيريين، وهنا نجد طرفى نقيض، فطلب نشر مزيد من قوات الجيش باعتبارها الأكثر كفاءة وقدرة على فرض الأمن، يقابله الطلب بإخفاء دوره والتركيز على العمل الاستخباراتى نظراً لأنه جيش نظامى فى مواجهة حرب عصابات، وذلك بعد انتقاد واضح بعدم وجود رؤية للقضاء على الإرهاب مع نفى أى دور للقبائل فى إخفاء الإرهابيين، والجملة الأخيرة يمكن الجدل فيها كثيراً.
وليس المقصود هنا سوى عرض الاجتهادات من واقع المعايشة والمكابدة للمعاناة والتضحيات، وأتصور أن التأمل فى الطرح الخاص بإخفاء دور الجيش وقد تقرر تطبيقه على النحو المذكور وتم سحب معداته وآلياته، وانغمس كثيرون فى العمل الاستخباراتى، وخلت الشوارع من مظاهر الأمن وإنفاذ القانون، فهل سُيعد ذلك قضاء على الإرهابيين أم مكافأة لهم؟ وهل سيشعر أهالى المدن والمراكز السكانية بالأمن أم سيرون الأمر بمثابة اعتراف بالهزيمة وإخلاء أرض المعركة للطرف الآخر؟ وهل سيؤدى اختفاء الجيش بالمعنى السابق إلى اختفاء الإرهابيين أم زيادة مظاهر وجودهم، لأنه لن يوجد من يخشونه؟ أسئلة كثيرة تصب إجاباتها فى استنتاج واحد وهو أن المطالبة بإبعاد الجيش عن مواجهة جماعات الإرهاب والتكفير فى سيناء يعنى إفساح المجال لمزيد من الإرهاب وفقدان الأمان وتسليم الأرض وما عليها من بشر وحجر لمن يسعى لتقسيم البلاد وإسقاطها.
والحقيقة أنه يصعب علىّ تقبل مقولة إنه لا توجد خطة لمواجهة الإرهابيين والتكفيريين، أو أنه لا توجد إرادة للقضاء على الإرهاب، فمثل هذا الحكم يتصادم مع ما نشهده صباح مساء، فهناك خطة معلنة من حيث الأهداف والآليات أما تفاصيل التحركات فهى من صميم الأداء العسكرى الواجب سريته، ومن المؤكد أنها تصيب بعض أهدافها وتتعثر فى بعض آخر، والمطلوب هنا هو مراجعة الأداء الأمنى والعسكرى فى ضوء المعطيات التى تكشف عن تطور الأداء الإرهابى، وبما يفرض تطوراً مضاداً له وينهى الثغرات أولاً بأول، ولعل موضوع الكمائن الأمنية الثابتة التى يستهدفها الإرهابيون بين حين وآخر يتطلب نظرة وأسلوباً جديديْن، سواء من حيث اختيار العناصر وطرق التدريب والتأمين وآليات التحرك من وإلى تلك الكمائن، وتلك الثابتة لا تعنى أنها النوع الوحيد من الأداء الأمنى، فوجود كمين ثابت أو أكثر لا يلغى وظيفة وأهمية الكمائن المتحركة، فكلاهما مطلوب وهو ما يقرره الخبراء، وتظل هناك أهمية كبرى لمعالجة موضوع الأنفاق التى تُكتشف كل فترة وكل منها يكشف عن تطور أسلوب البناء ونوعية التجارة التى تتحرك داخله، وبالتالى الأفراد الكبار وراءه.