(١)
لم يكن الانزعاج قد أصاب الأزهر فحسب من تلك الحملات التبشيرية الغربية، التى انتشرت فى منتصف القرن التاسع عشر بين ربوع الدولة المصرية، باعتبارها أقرب دول الشرق لأوروبا وقتها.. فقد رأت الكنيسة المصرية أيضاً أن الأمر يتعلق بضرب النسيج الوطنى المصرى كاملاً.. فما كان من البابا كيرلس الرابع، الذى يسمى فى التاريخ القبطى المصرى «أبوالإصلاح»، إلا أن ابتاع مطبعة جديدة، ولم تكن المطابع قد انتشرت بعد إلى الحد الذى يجعلها مشروعاً مربحاً.. وقام بمواجهة المنشورات التبشيرية التى تناثرت بين الناس بكتب كنسية تحث على الحفاظ على الهوية المصرية أولاً.. والأرثوذوكسية ثانياً.. لمواجهة الدعوات الغربية.. والانصهار فى بوتقة الوطن الواحد..
لم يطلب أحد وقتها من البابا أن يفعل ذلك.. ولكنه أدرك ما عليه من واجب وطنى ملزم.. قبل أن يدرك واجبه بحمل الرسالة الروحانية لمسيحيى مصر!
(2)
ما زالت الذاكرة تستعيد ما حدث فى أوائل العام ٢٠١١.. حين انتشرت إشاعة فى أعقاب حادث كنيسة القديسين.. أن الفاعل -المجهول وقتها- سيستهدف الكنائس مرة أخرى ليلة الاحتفال بعيد الميلاد.. فلم يكن من الكثيرين من المسلمين -وأنا منهم- إلا أنهم أعلنوا مشاركتهم إخوانهم المسيحيين الاحتفال يومها..
الأمر لم يكن هزلياً.. ولم تكن دعوة للشهرة أو للتضامن المعنوى فقط.. لقد قررنا أن نحضر الاحتفال من داخل الكنائس.. أن نحضر القداس بالكامل حتى ينتهى.. لنتحول إلى دروع بشرية لإخوتنا فى الوطن.. فنحيا معاً.. أو نموت معاً!
ما زلت أذكر نظرة الامتنان التى رأيتها فى عين جارى المسيحى الذى رآنى بجواره فى تلك الليلة.. لقد أدرك يومها أن الأمر أكبر من عقيدة مختلفة ننتمى لها.. وأن الوطن يحمل الجميع على أرضه.. ولكن الجميع يحملونه فى قلوبهم!
(3)
تميزت العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر -طوال التاريخ- باستثناء الأربعين عاماً الأخيرة، بأنها علاقة متينة وقوية وسوية.. حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين فى مصر، خاصة الأرثوذكس منهم، ليسوا أقلية، بل إنهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطنى المصرى والعربى.. والإسلامى أيضاً..
لم يظهر المصطلح البغيض المسمى بالفتنة الطائفية إلا مع أحداث مثل الخانكة فى عام ٧١ أو فى الزاوية الحمراء بعد سنوات عشر من الحادث الأول..!
إنه التوقيت نفسه الذى تزامن مع ظهور كل الجماعات اليمينية المتطرفة فى مصر.. ما يجعل الأمر لا يمكن فصله عن وجودهم.. ولا ينبغى عزله عن استمرار بقائهم وانتشار أفكارهم الفاسدة!
(4)
لا يخلو التطرف اليمينى على مر التاريخ من استهداف الأقليات تحديداً.. فالفكر المتطرف ذاته يقوم على استنكار تام لوجود الآخر.. والدعوة إلى التطهير الكونى تظل عقيدة راسخة فى أذهان المنتمين إلى جماعة دون غيرها..!
الأمر لا يتوقف عند «داعش» فقط فى التاريخ القريب إلى الأذهان.. بل يسبقها بتاريخ طويل.. ربما يصل إلى عصور النازى والجنس الآرى الأكثر رقياً.. والأحق فى السيادة.. بل وفى الحياة نفسها!
الأمر لم يختلف كثيراً فى سيناء فى الأيام الأخيرة.. فاستهداف الأقباط قد سبقه استهداف للصوفيين أنفسهم.. ومشهد ذبح الشيخ الصوفى المسن منذ عدة أشهر ما زال فى الأذهان!.. حتى إن أعداداً غير قليلة من الصوفيين قد اضطرت للهرب من استهداف الدواعش.. بل وترك بعضهم سيناء بالكامل!
(5)
استهداف المسيحيين فى سيناء لم يكن مستبعداً فى رأيى منذ فترة طويلة لأسباب تتعلق بعقيدة التنظيم نفسه.. ولكن التوقيت نفسه هو ما يثير الريبة!
لا يفرق الدواعش بين مسلم ومسيحى.. فالكل فى نظرهم كافر مارق.. ولكن استهدافاً للمسيحيين تحديداً فى هذا الوقت الذى يسبق زيارة الرئيس للولايات المتحدة يجعل للأمر ثقلاً عالمياً.. ووجود حكومة أمريكية تحمل من مقومات التطرف الكثير يجعل الموقف أكثر من رائع بالنسبة لهم أيضاً!!
لا ينبغى أن ننساق وراء من يحاول إذكاء نيران الفتنة فى النسيج المصرى.. ولا يجب أن نبحث فى كتب التاريخ عما يؤجج الفتن ولا يخمدها..
لن ينال الدواعش مأربهم إن فوتنا عليهم الفرصة.. ولن يجد المتطرفون فائدة إن وجدوا مجتمعاً واعياً مدركاً لأبعاد المؤامرة التى تحاك ضده.. بين جبال سيناء!