■ بعيداً عن دلع ونفسنة الهوانم ورائعة طه حسين (دعاء الكروان) وحب آمنة ومن بعدها شقيقتها هنادى للباشمهندس أحمد مظهر، فارس السينما المصرية فى الخمسينات، أيام أفلام الأبيض والأسود، الذى انتهى بمأساة قتله، فبكته عذارى الخمسينات ومن قبله بكين آمنة، شهيدة الحب غير البرىء، وبعيداً عن خيال سمير عبدالعظيم، الكاتب الروائى، عندما زوج فاتن حمامة أيضاً لمحمود ياسين فى فيلمه الذى يحكى مأساة العاملات فى المنازل فى (أفواه وأرانب) وأيقظ تلك الأحلام فى نفوس الكثيرات منهن فى السبعينات. وفى محاولة لنفى تلك الشائعة السخيفة التى يتداولونها حول قرية فى البحرى ترسل عائلاتها الفقيرة فتياتها الصغار اللاتى اشتهرن بجمالهن الأخاذ للعمل فى منازل العاصمة، وهن صغيرات دون سن العمل القانونية بحثاً عن قصة تنقل الأسرة بأكملها لمصاف الأغنياء بعد الارتباط بأحد شباب المنزل، ولا مانع من رب الأسرة نفسه، الذى تزوج من حيزبون كانت قسمته ونصيبه وأم الأولاد، فأدار جمال الصغيرة رأسه، ففقد صوابه، فيقرر الزواج العرفى سراً، وإذا قدر لك أن تحضر لقاءً نسائياً فى أحد الأندية الرياضية أو إحدى المناسبات، فستجد أن تلك القصص هى المفضلة.
■ بعد هذه المقدمة أحدثكم عن تجربة إنسانية عشتها فى طفولتى، وما زلت أذكر بطلتها حتى الآن، وأحاول معرفة أخبارها التى انقطعت عنا بعد رحيل الأجداد.
■ أم فلان، التى فتحت عينى عليها كنت أراها فى بيت جدتى الكبيرة رحمها الله فى بيت العائلة، فقد كنا نشعر، نحن الصغار، بأن يوم الجمعة الذى نلتقى فيه جميعاً أبناء الخالات والأعمام والأزواج والزوجات فى مأدبة أسبوعية لها مراسم وتقاليد، كنا نشعر بأن هناك استعدادات تتم لترتيب عمل الغد، حيث يساعد الجميع الجدة فى جمع الملابس المتسخة والمفروشات لوضعها فى غرفة الغسيل وتأتى أم فلان كل سبت مبكراً لتقضى يومها فى هذه الغرفة إلى جوارها عدة أوان للغسيل وبطل الغرفة وابور الجاز الذى يظل «يأزأر» طوال الْيَوْمَ وتغلى المياه فوقه وكلما نقصت كانت أم فلان تقوم بإضافة المزيد، وكنا نلاحظ أن هذه السيدة لا تغادر الغرفة إلا للاتجاه لبلكونة المنزل لنشر الغسيل الذى تتباهى به جدتى أمام الجيران لنظافته وترتيبه على الأحبال، كما لو كان عرض أزياء بلغة العصر.
■ الطريف أن جدتى قاومت كثيراً فكرة الاستغناء عن أم فلان والاعتماد على الغسالة الكهربائية، إلى أن مرضت تلك السيدة وفشل الجميع فى إيجاد بديلة لها للجدة، فاضطرت للاستعانة بالماكينة، كما كانت تقول بدلاً من الإنسانة التى تهالكت من الزمن وقسوته.
■ وفى القرن الواحد والعشرين، ما زالت أم فلان تعمل وبمساعدة التكنولوجيا أصبحت تستخدم الكثير من الأدوات الكهربائية التى تخفف المعاناة عنها، إلا أن القصة لم تتغير، فهناك دائماً امرأة لم تجد ما يكفيها، فاضطرت لذلك العمل دون أى ضمانات من الدولة التى تحمل جنسيتها، والغريب فى الأمر أن منظمة العمل الدولية أقرت اتفاقية العمل اللائق للعاملين بالمنازل ووافقت عليه الدول الأجنبية، ولم توقع عليها مصر ولا أى دولة عربية أخرى.
■ ولا يتوقف الأمر على رفض الاتفاقية فقط، بل إنه فى عام ٢٠١٢ استطاعت ٣٠٠ امرأة الاجتماع وإعداد الأوراق المطلوبة لتدشين أول نقابة مصرية للعاملات فى المنازل، وقد رفضت وزارة القوى العاملة إشهار النقابة تحت اسم عاملات المنازل وطلبت استبدال الاسم بنقابة العاملات بالأجر الشهرى، وكأن الأسماء أهم من البشر ووضعت العراقيل أمام المشروع الذى توقف. وكان قد سبق مشروع النقابة الإعلان عن تأسيس أول جمعية أهلية للعاملات فى المنازل، حيث انبثق عن الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مشروع باسم تحسين السياسات العامة لحماية عاملات المنازل فى مصر، وكان جزءاً من أهدافه منع وتجريم عمالة الأطفال ومنع استغلالهم بمهن عاملات المنازل ومحاربة التسرب من التعليم وضرورة وجود عقد عمل موثق بشكل رسمى بين العامل وصاحب العمل والتوصية بإصدار قانون خاص بعاملات المنازل والتوقيع على الاتفاقية التى أصدرتها منظمة العمل الدولية، وكذلك ضرورة أن تتوافر فرص العمل من خلال مكاتب مدربة ومجهزة، بحيث تضمن لهم عملاً آمناً.
■ والطريف أنه فى يونيو عام ٢٠١٥، قامت عاملات المنازل فى لبنان، التى لم توقع بطبيعة الحال على اتفاقية منظمة العمل العربية بعقد مؤتمر تأسيسى لإنشاء نقابة العاملات والعمال فى الخدمة المنزلية، إلا أن وزارة العمل اللبنانية حاولت منع انعقاد المؤتمر، وهددت باستخدام قوات الأمن الداخلى لفضه، وأعلنت أنها لن تعطى ترخيصاً لمثل هذه النقابة، لأنها تخالف القوانين اللبنانية التى تحرم إنشاء نقابة للعمالة الخارجية، رغم التأكيد أنهن جميعهن يحملن الجنسية اللبنانية، وبطبيعة الحال توقف المشروع عند تلك النقطة، كما حدث فى مصر وما زالت أم فلان تركض يومياً منذ الصباح الباكر، لتعمل وتحتمل نفسنة الهوانم، وتحلم بأن يكمل الأبناء التعليم لينتقلوا لوسط اجتماعى جديد، وتخفى عن جيرانها، وربما أبنائها أنها أم فلان، التى تعمل بلا تأمين ولا معاش ولا حماية من غدر الزمان.
ملحوظة
تعريف ومعنى فلان فى قاموس المعجم الوسيط المعاصر للغة العربية يقول إن كلمة «فلان» تأتى كناية عن العلم المذكر العاقل، ومؤنثه فلانة، ويكثر ذلك عند النداء. ولا تدخل عليه أل التعريف، فنقول السيد فلان.