(هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب.. أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت)..
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع، ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، بل الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها، لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيح غالباً، متجمل فى بعضها، برىء أحياناً.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم ليبقى السؤال ذاته: «هى ثورة ولا مؤامرة؟».. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
حكايات قصر الدوبارة
إنها كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية الواقعة فى الجهة الغربية من ميدان التحرير، وشعبها يتجاوز ثلاثة آلاف، كانت نموذجاً فريداً حيث كوّنت مع جامع عمر مكرم ترنيمة عشق للوطن.
أفاق محمد السلفى على أصوات حميمية تحاول إفاقته متلهفة للاطمئنان عليه من أثر الغازات المسيلة للدموع.. وعندما بدأ يستعيد حواسه رأى الصليب من حوله فى كل مكان ليصيح مذعوراً:
- أنا فين.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وينهض متحاملاً على نفسه للفرار.. ويحاول الجميع إقناعه أن ينتظر حتى تستقر حالته دون جدوى.. فأمسك به د.حسام، مدير المستشفى الميدانى بالكنيسة، لينظر محمد بدهشة لذلك الشاب وقد تربعت علامة الصلاة على جبهته ويهمس له فى حيرة:
- إنت مسلم وبتشتغل فى كنيسة؟
يبتسم د.حسام ليزيد حيرة محمد:
- وبدون أجر كمان..
لتبدأ رحلة تنوير عقل وقلب نصيبه المتواضع من التعليم أباح لكثير من المفاهيم المغلوطة أن تغتال مساحات السماحة فى وجدانه على يد جهلاء مدعين منقادين بعملاء متآمرين.. ليكتشف التراث السلفى الحقيقى ومأثورات الصحابة والتابعين فها هو «ابن الخطاب» يصلى على باب كنيسة القيامة فقط خشية أن يتخذ المسلمون الصلاة داخلها سنة فتفقد هويتها..
وما بالنا نذكر الفرع وننسى الأصل وقد مات الرسول ودرعه مرهونة عند يهودى.. يستمع «محمد» لإجابات عن أسئلة طالما ظلت محلقة فى مخيلته باحثة عن إجابات يرحب بها المنطق والضمير.
يلمح محمد شيخاً معمماً يدخل الكنيسة فيشعر كما الغريق الذى وجد طوق نجاة يهم بالاستغاثة به.. ليميت الكلمات على شفتيه توجه الشيخ نحو أحد القساوسة بيدين ممدودتين وصدر مفتوح وتلاقى أخوة أحباء.. يجلسان بحماس يتدبران شئون العباد.. يلتفت ليجد كثيراً من الرواد مشمرى الساعدين يخرجون من حمامات الكنيسة يرددون تمائم الوضوء.. ليقتحم حديثهم أحد مساعدى د.حسام موضحاً نقص أصناف من الأدوية فيطلب منه التوجه للجامع لإحضارها، فتكمل مسئولة المتطوعين وهى سيدة أرستقراطية جميلة الطلة اسمها «إيفا» الحوار قائلة: «وخد الحاجات الزيادة اديها لهم».. ليفتح «محمد» فاه فى ذهول، متنقلاً بعينيه بين وجوه ملؤها البشاشة وابتسامات التسامح.. فلم يعد يستطع التمييز بين أيهما لمسلم أو مسيحى فالوجوه كلها سواء والملامح والدماء.
وهكذا تمضى الأيام وقد زاد عدد المتطوعين فى الكنيسة واحداً.. زال عن وجهه كل عبوسه.. يجتهد بكل حماس وتفانٍ.. يستأذن لأداء الصلاة فى الجامع القريب.. وقد اكتشف أن المسافة بين الجامع والكنيسة أقرب مما كان يتصور.. إنه محمد السلفى.. السلفى عن فهم.
وها هو يوم الصلاة بالكنيسة، التى يحرص عليها الملتزمون من شعب الكنيسة.. ويأتى «عادل» كعادته كل أسبوع ليجد طوابير عند باب الكنيسة من رجال ملتحين ونساء محجبات.. فيسأل باندهاش فيخبره خدم الكنيسة بأن الصلاة تأجلت نظراً للظروف الراهنة وازدحام بهو الكنيسة بالمصابين فى المستشفى الميدانى.. فرد «ولكن كل هؤلاء المتزاحمين يبدون بصحة جيدة»، ليخبره أحدهم بتلقائية:
- لا دول بيتوضوا علشان مفيش مكان يكفى فى حمامات الجامع.
ليضرب عادل كفاً على كف وهو يبتسم:
«طب أنا عايز أصلى أنا كمان أعمل أيه أروح أصلى فى الجامع يعنى».. ليضحك الجميع...
وللحديث بقية.