(١) هذا هو المقال (١٩) من سلسلة مقالات «الإخوان والحق المر»، وفيه نتناول قصة تعديل نص المادة ٧٦ من دستور ٧١.. ففى أوائل عام ٢٠٠٥، كان هناك حوار بين قيادات الحزب الوطنى «الديمقراطى» (أى حزب السلطة) وقيادات أحزاب المعارضة، الوفد والتجمع والعربى الناصرى حول الإصلاح السياسى، وكان واضحاً أن السلطة تريد من وراء هذا الحوار أن تبعث برسالة إلى الغرب أنها حريصة على إحداث حراك سياسى، تشارك فيه الأحزاب الرسمية، وبالتالى تقطع الطريق على من يدعى وجود حالة جمود أو ركود سياسى فى مصر(!).. وقد اشترطت قيادات الأحزاب -كى يستمر الحوار- ضرورة تغيير أو تعديل الدستور، لكن الطرف الآخر راوغ فى هذا الأمر واعتبره رابع المستحيلات الثلاثة المشهورة: «الغول والعنقاء والخل الوفى».. واضطرت قيادات الأحزاب للرضوخ، وكان السيد ضياء الدين داود -رئيس حزب العربى الناصرى- هو الوحيد الذى رفض الاستمرار فى الحوار.
(٢) بعد هذه الواقعة بأسبوع، وتحديداً فى ٢٦ فبراير ٢٠٠٥، كان الرئيس الأسبق حسنى مبارك يلقى خطاباً فى مدرسة «المساعى المشكورة» بمحافظة المنوفية، حيث أعلن فيه فجأة عن تعديل نص المادة ٧٦ من الدستور، الذى يجعل اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب «الحر» المباشر من بين أكثر من مرشح، بدلاً من الأسلوب الذى كان متبعاً آنذاك وهو أن يتم الترشح والموافقة من خلال المجلس النيابى، ثم الاستفتاء.. غير أن التعديل العجيب الذى استغرق ثلاث صفحات ونصفاً (وهو ما لم يحدث فى أى دستور فى العالم) تضمن شروطاً تعجيزية أفرغته تماماً من مضمونه، الأمر الذى جعل خبراء القانون الدستورى يصفونه -أيامها- بأنه «خطيئة دستورية».. وإزاء ذلك ثارت كافة القوى السياسية والوطنية، وهاجمت التعديل بشراسة وضراوة، وكان للإخوان دورهم.. فقد دعونا المكاتب الإدارية والأقسام الفنية للجماعة إلى لقاء مع مكتب الإرشاد لمناقشة الموقف من التعديل.. كانت أغلب الآراء مع الرفض، وضرورة التعبير عنه بشكل ظاهر.
(٣) فى اجتماع مكتب الإرشاد تم الانتهاء إلى أن يكون الإعلان عن الرفض من خلال عقد مؤتمر صحفى عالمى للمرشد والمكتب يوم ٢٤ مارس ٢٠٠٥، تدعى إليه كافة وسائل الإعلام وفيه يعلن عن «وقفة صامتة» تضم ٥٠٠ شخص فقط من الإخوان أمام مجلس الشعب المصرى، وذلك بعد ثلاثة أيام من المؤتمر الصحفى.. المهم أنه قبل فجر يوم ٢٧ مارس، وهو موعد «الوقفة الصامتة»، قامت مباحث أمن الدولة بمداهمة بيوت ٨٤ من القيادات الوسيطة للإخوان وإلقاء القبض عليهم، وهو ما جعلنا نصر على إتمام الوقفة.. وعقب صلاة الظهر فى ذلك اليوم، حاول الإخوان التجمع أمام مجلس الشعب، إلا أن جميع الطرق المؤدية إليه كانت مسدودة بعشرات من سيارات الأمن وآلاف من جنود الأمن المركزى.. واضطر الإخوان إلى التمركز فى ٣ تجمعات رئيسية؛ عند مسجد الفتح بميدان رمسيس، وفى حى السيدة زينب، وبالقرب من ضريح سعد.. وقد ضم المكان الأول أكبر التجمعات، يليه الثالث، فالثانى.. وكنت فى التجمع القريب من ضريح سعد.. وقد أحدثت التجمعات الثلاثة أثرها المطلوب، حيث رصدتها معظم القنوات الفضائية المصرية والعربية والأجنبية وقامت ببثها بعد سويعات قليلة إلى العالم كله.
(٤) عقب التظاهر مباشرة وقبل أن ينصرف المتظاهرون، تم إلقاء القبض على المئات منهم، وكان من بينهم الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، عضو مكتب الإرشاد وأمين عام اتحاد الأطباء العرب، غير أن مباحث أمن الدولة أفرجت عنه بعد ساعتين تقريباً.. من ناحية أخرى، نقلت قناة الجزيرة عن الدكتور عصام العريان أمين صندوق النقابة العامة للأطباء، قوله: «حانت ساعة التغيير».. فاتصل بى هاتفياً بعدها مباشرة أحد ضباط مباحث أمن الدولة، وقال غاضباً: هل أعجبك ما قاله عصام العريان؟ قلت: لقد اعتقلتم فجر اليوم ٨٤ من قيادات الإخوان من بيوتهم، واعتقلتم المئات من المتظاهرين.. قال: سنفرج عنهم بعد قليل، ثم أردف قائلاً: لكنك لم تجب عن سؤالى.. قلت: الدكتور عصام العريان أحد رموز الإخوان، وله قدره ومكانته.. فرد مستفسراً: يعنى هو صاحب قرار؟ قلت: لا أحد فينا ولا حتى المرشد صاحب قرار.. وإنما صاحب القرار هو مكتب الإرشاد.. قال: أريد رداً على ما قاله الدكتور عصام.. فما قاله يعنى أن هناك تغييراً جوهرياً فى سياساتكم.. قلت: اليوم غير ممكن.. لكن غداً يجتمع مكتب الإرشاد، وبعد الاجتماع سأخطرك بالرد.. وفعلاً، هاتفته فى اليوم التالى وأخبرته بأن سياسة الإخوان لم يطرأ عليها أى تغيير.. بناء على ذلك تم الإفراج عن العدد الأكبر من الإخوان المقبوض عليهم فى ذلك اليوم، وتم الإفراج عن الباقين فى الأيام التالية.
(٥) ما أحب أن ألفت إليه الانتباه هو أن هناك تصوراً لدى الرأى العام، والسلطة، وحتى الإخوان أن عضو مكتب الإرشاد -والمرشد من باب أولى- صاحب قرار.. وهذا غير صحيح، بل يجب ألا يكون صحيحاً.. فالأصل أن الجماعة لا يقرر مصيرها فرد، أياً كان موقعه، ويجب أن تخضع فى سياساتها وتوجهاتها وقراراتها لمؤسساتها، خاصة مجلس الشورى العام.. ويمكن لمكتب الإرشاد -فى الأمور العاجلة التى لا تحتمل تأجيلاً- أن يتخذ من القرارات والمواقف ما يوضح ويتوافق مع السياسات المعتمدة لدى الجماعة.. وفى هذا الصدد أذكر أن الدكتور عصام العريان كان قد أدلى فى أحد الأيام بتصريح لصحيفة «الحياة» بشأن موقف الإخوان من اتفاقية «كامب ديفيد» حال وصولهم إلى سدة الحكم، ما اعتبرته الصحيفة اعترافاً بإسرائيل! وقد اتصلت الصحيفة بى وبالمرشد «عاكف» لاستطلاع رأينا فيما قاله الدكتور العريان، فنفيت من جانبى بشكل قاطع أن يكون قد صدر منه ما يفيد ذلك.. وأما «عاكف»، فقال: أنا المرجعية، أى أنا الذى يرجع إليه، وما قاله الدكتور العريان لا يعول عليه.. وحينما أخبرنى الرجل بذلك، قلت له: لن تدع الصحيفة الأمر يمر هكذا، وسوف يكون هناك تعليق منها على كلامك بخصوص مسألة المرجعية هذه.. وقد كان.. ففى اليوم التالى لتصريح «عاكف»، قالت الصحيفة: طالما أن المرشد هو المرجعية، فهل إذا أصبح الدكتور عصام العريان مرشداً سيعترف بإسرائيل؟ (ملحوظة: ظل مجلس الشورى العام للجماعة لا يجتمع طيلة ١٦ عاماً؛ من ١٣ يناير ١٩٩٥ حتى ١٠ فبراير ٢٠١١، وكان مكتب الإرشاد هو صاحب الأمر والنهى فى كل شىء).. (وللحديث بقية إن شاء الله).