من أدبيات التميّز أن نكون مرآة منصفة للآخرين، لا تعكس فحسب فرص التحسين ونواحى التقصير، بل تعترف ببصمات الإنجاز ومواطن الرقى، وتحتفى بها عرفاناً وتقديراً لأصحابها، إذ يزداد الاحتفاء بالإنجاز بهاءً وبريقاً حين يأتيك من شركاء وطنك بعد أعباء ثقيلة ومهام جسام وسط مجتمع يعانى الخصومة المعرفية وغياب روح فريق العمل، وفى أمسّ الحاجة لربانية الشعراوى وموسوعية عبدالوهاب المسيرى، وحكمة غاندى، وصرامة ثاتشر، وحلم مارتن لوثر كنج. لقد ألحت علىّ كلماتى، وتسللت من بين أناملى حين وقعت عيناى على خبر تكريم وزيرة التخطيط الدكتورة هالة السعيد لوزير التخطيط السابق الدكتور أشرف العربى، لفت الموقف انتباهى فتوقفت عند ثلاث ركائز جديرة بالتأمل.
أولاها أن يأتى تكريم خير خلف لخير سلف، وأن تكون انطلاقة وزيرة التخطيط فى رحلتها نحو ترجمة حلم مصرَ التنموى إلى واقع نتوق شوقاً لرؤيته برسالة تميُّز مؤسسى راقية المعانى، وعميقة الدلالات نادراً ما تتصدر المشهد ونحتفى بآثارها، حيث جاء التكريم تقديراً لإنجازات الوزارة العديدة فى عهد أشرف العربى، أهمها مشاركتها بفاعلية فى إعداد الخطط الخمسية والسنوية التنموية، وإطلاق رؤية مصر 2030. رسالة التكريم صيغت باحتفاء استثنائى اختزل فى لحظات ما يُغنى عن خطب عصماء تتردد فى مناسبات الوفاء والثناء.
ثانياً، يؤسس هذا التكريم لبناء شاهق من الإنجازات، يتمثل فى معرض الذاكرة المؤسسية لمسيرة وزارة التخطيط الحافلة بفكر عرّاب التخطيط والناسك الأمين الدكتور كمال الجنزورى، وغيره من فرسان هذا الوطن، لتكون وزارة ريادية برؤية استشرافية. لم تُغَيّب ذاكرتى ذلك الموقف فى حضرة القائد الماليزى مهاتير محمد فى إحدى الزيارات حين اصطحبنا إلى معرض (الذاكرة المؤسسية للوزارات)، حيث قال لنا: «هنا إحدى ممكنات النجاح المستدام، هنا يتم توثيق عمل الوزراء حتى يبدأ الوزير من حيث انتهى سلفه، وإن كان الوزير الجديد استباقياً فسيبدأ من حيث فكر أن ينتهى سابقه»؛ هذا هو الفكر الذى يمنح شركاء الحكومة الثقة فى نهجها وليس شخوصها.
يقينى أن الدكتورة هالة السعيد يمكن أن تبادر بوضع أولى لبنات معرض «الذاكرة المؤسسية» لوزارة التخطيط، يتسع لكل التجارب الرائدة والممارسات الابتكارية التى تمت فى مسيرة الوزارة الزاخرة بالخطط التنموية، لتكون مصدر إلهام ونقطة انطلاق للكادر الوزارى تحتذى به باقى الوزارات، وبصمة نوعية وإصداراً متميزاً يترجم رؤية مصر 2030 بواقعية «الاستثمار فى عبقرية الإنسان والمكان».
ثالثاً، الفرصة سانحة لتحويل هذا التكريم إلى نهج مؤسسى، وهذا ما نص عليه قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 وينتظر إقرار اللائحة التنفيذية، من خلال ما ورد فى المادتين (44) و(74) حول تحفيز الجهود الاستثنائية وتكريم الإنجازات، كما أثبتت الدراسات المرتبطة بالتحفيز أن الموظفين يستطيعون تحقيق نسبة تحسين فى الأداء لمنظماتهم تصل إلى 75%؛ لكنهم لا يقومون بهذا الأداء نتيجة نقص التحفيز وغياب التقدير، وفى هذا يؤكد رائد علم التحفيز، الأسترالى زج زجلر: «الثناء الصادق من أكثر طرق التعليم والتحفيز فاعلية فى الوجود»، ولهذا نتطلع إلى أن تكون تلك اللفتة من وزيرة واعدة هى خطوة منهجية مؤسسية وفق معايير موضوعية تعكسها اللائحة المرتقبة.
ختاماً، ما أجمل أن تغادر موقعك وتبقى عطر إنجازاتك وشذى أخلاقك وصدى تواضعك وثمار غرسك حاضرة، لم تبدلك المواقع، ولم تغيرك المناصب، ولم يستهوِك الكرسى. ما أجمل أن تطوى صفحة من رحلة الإنجاز، لتستأنف صفحة جديدة فى صومعتك المعرفية ومحرابك المهنى. كل الشكر والامتنان للدكتورة هالة السعيد على مبادرتها الاستباقية الملهمة فى «إسعاد» شركاء النجاح؛ وللدكتور أشرف العربى كل التقدير والعرفان على «شرف» العطاء ودموع اللقاء فى حفل التكريم الذى وصل صداه إلى الجميع.