لعلك سمعت عن متحف الشمع الذى يقبع فى «حلوان»، ولم يعد يرتاده أحد بعد إغلاقه. يحتشد المتحف بعشرات التماثيل التى تجسد وتجمد المراحل المختلفة لتاريخ مصر، بدءاً من العصر الفرعونى، وانتهاءً بثورة يوليو 1952. المتحف كان موضوعاً لأحد الأفلام الشهيرة، كان بطلها الضاحك الباكى «إسماعيل ياسين». أغلق المتحف عام 2009، بسبب سوء حالته، وحاجته الماسة إلى الترميم، خصوصاً أن شمع التماثيل ذاب، بفعل نقلها من موقع المتحف الأصلى بالتحرير، ثم إلى جاردن سيتى، وأخيراً إلى حلوان!
لست أجد تفسيراً لتوقف إنتاج تماثيل الشمع فى الواقع المصرى منذ الخمسينات، وإغلاق المتحف، سوى أن أماكن كثيرة فى مصر تحولت إلى متاحف، يشخص فيها أفراد «شمعيون»، يفكرون بطريقة «شمعية»، ويؤدون بأسلوب «شمعى». «الشمعية» طريقة وأسلوب فى الأداء يمكن وصفه بالجمود على القديم، ويحكمه المحاولة العبثية للصمود أمام عوامل التعرية التاريخية التى تضرب فى جميع الاتجاهات. تعالَ نستعرض نماذج على ذلك. النموذج الأول تجده فى مجلس النواب الذى خرج رئيسه متهِماً إحدى الصحف بـ«عض اليد التى أحسنت إليها»، حين أقدمت على نقد الأداء داخل مجلس النواب، فى وقت تنفق فيه عليها الدولة!
يحدث هذا من مجلس يُفترض فى أعضائه الوعى بقيمة ودور الرقابة على الأداء، وهو دور يمارسه المجلس، وتمارسه الصحافة معه رأساً برأس. فالنواب والصحافة مطالبون بالرقابة على الأداء العام، وكشف سلبياته ودعم إيجابياته. بماذا يمكن أن نسمى عدم الوعى بدور الذات وأدوار مؤسسات المجتمع الأخرى، وعدم الالتفات إلى التغيير الذى تشهده مصر منذ عام 2011 وحتى الآن؟. إنه «التفكير الشمعى».
تحت قبة البرلمان أيضاً تظهر أصوات تنادى بتعديل الدستور، خصوصاً البند المتعلق بمدة الحكم، وتقترح تمديدها إلى 6 سنوات بدلاً من 4، وهى دعوة ظاهرها غير باطنها، فظاهرها محبة رئيس الدولة، لكن باطنها غير ذلك، وهى تعيدنا إلى «مشهد شمعى» متكرر شاهدناه كثيراً فى المرات التى قام فيها الرئيس السادات، ثم «مبارك»، بتعديل مواد دستورية، فمن يحترم رئيس الدولة لا بد أن يدعوه إلى احترام الدستور الذى جاء به إلى الحكم، لأن الدستور ببساطة هو وثيقة شرعيته. ومصير مثل هذه الدعوات التى يتبناها البشر «الشمعيون» هو «الذوبان» تحت شمس الواقع الجديد والفكر المختلف الذى أفرزته ثورة يناير، ويبدو الآن كامناً، لكنه موجود!
تعالَ بعد ذلك إلى حكاية «تأبيد» بعض المسئولين فى مواقعهم، والهجوم «الشمعى» الذى يشنه البعض على أى دعوات تستهدف «تدوير» المنصب، مثل الدعوة إلى تحديد مدة معينة لشيخ الأزهر. تقديرى أن هذه الدعوة لا تقلل من مقام فضيلة الإمام الشيخ أحمد الطيب، بالعكس تماماً فأنا من المعجبين بصلابته وتمسكه برأيه، لكن هذا أمر، ومسألة «التأبيد» فى المنصب أمر آخر، الدعوة إلى «التدوير» مبررة، غير المبرر حقيقة هو الهجوم عليها، خصوصاً عندما يأتى على لسان أزهريين. فالسن له أحكامه. والله تعالى يقول: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا (النحل: 70). فالإنسان فى كبره يرتد طفلاً، وقد ينسلخ من عقله، وينسى كل ما سبق وتعلمه فى مراحل عمره، وترْكُ المسرح فى هذه الحالة أوجب.
رحم الله إسماعيل ياسين صاحب «متحف الشمع»!