أثناء الإعداد لكتاب «شهادتى» للسيد وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط، توقفت معه أمام ملفات الخارجية المصرية فى السنوات السبع الأخيرة من حكم الرئيس السابق مبارك، ومن بينها علاقة مصر بدول حوض النيل وملف المياه، وكيف أن مصر تركت أفريقيا للاعبين جدد بات لهم نفوذ فيها بعد وفاة عبدالناصر، واتجاه السادات ومبارك للغرب الشمالى دون رعاية لأهمية الجنوب الأفريقى لأمن مصر مياها وسياسة واقتصادا. وحادثته يومها عن رجل المخابرات الراحل محمد غنيم الذى أسس شركة النصر للاستيراد والتصدير فى الستينات ليكون لمصر يد عليا فى أفريقيا عبر التجارة التى باتت واجهة لحماية مصالحها فى دول القارة السمراء، وكيف أن الرجل حكى لى فى لقاء معه فى أبريل 2010 أن مصر، عبر تلك الشركة، كانت تتحكم فى كل ما يجرى فى تلك الدول وبخاصة دول حوض النيل إلى درجة اختيار الرؤساء والمسئولين الذين ارتبطوا بعلاقات إنسانية مع الرئيس عبدالناصر خلال تلقيهم تعليمهم فى القاهرة. فأكد لى السيد أبوالغيط ما قلت وزاد عليه أن قليلا من الاستثمارات فى أثيوبيا ببضع مئات من الملايين كانت كفيلة بسد الفجوة بيننا وبينهم، ولكن الوزراء المصريين لم يدركوا أبعاد ذلك رغم تأكيده عليه فى اجتماعات مجلس الوزراء، بسبب غياب الوزير السياسى وعلاقات المصالح مع رجال الأعمال. ولكنه سألنى: «أتعرفين لماذا لم تبنِ أثيوبيا سد نهضتها حتى زوال حكم مبارك رغم إعلانها عنه منذ سنوات؟»، فقلت لعله التمويل. فقال لى: «كلا، إنها سيادة الدولة التى كنا نحرص عليها رغم غياب الإرادة السياسية فى بعض الأحيان». ثم أضاف: «عندما توليت وزارة الخارجية كان هناك أربع ملفات فى يد المخابرات، هى: ليبيا، الملف الفلسطينى الإسرائيلى، العلاقات المصرية الأمريكية، وملف مياه النيل. وأذكر أننا ذهبنا فى زيارة لإثيوبيا أنا واللواء عمر سليمان واجتمعنا بالرئيس الإثيوبى فى اجتماع مغلق، فاتهمنا بأننا نحرض الدول على عدم تمويل سده، فأكدنا له المعلومة مؤكدين أننا لن نترك مصالحنا فى مياه النيل فى يد أحد. ثم قال له اللواء عمر سليمان إننا لن نكتفى بذلك، لكننا سنلجأ لكل السبل بما فيها تمويل المتمردين ضد حكمه وتزويدهم بالسلاح لو فكر فى وضع حجر واحد فى هذا السد. وأدرك الرئيس الإثيوبى أن عمر سليمان لم يكن يلقى الكلمات جزافا».. هكذا توقف التحرك فى سد النهضة حتى زال التهديد بغياب رجال كانوا يعرفون ملامح الأمن القومى المصرى ولا يتنازلون عنه مهما قدموا من تنازلات أخرى. لست فى مجال الدفاع عن عمر سليمان رغم تقديرى للرجل الذى كان عثرة فى وجه الكثيرين خارج وداخل مصر، لكننى أدافع عن أمنى فى ظل نظام لا يعى كلمة أمن قومى وقد لا يعترف به لأنه لا يؤمن من الأساس بفكر الدولة ولكن بمفهوم الأمة. فلا يرى مانعا من تمليك أراضى سيناء للفلسطينيين وإقامة منطقة تجارة حرة تصبح فيما بعد وبشكل رسمى فلسطينية خالصة بحكم الواقع، ويعطى حلايب وشلاتين للسودان لأنها لن تزيد مصر كثيرا أو قليلا، ويبيع قناة السويس بدعوى كذب التنمية. ويترك جهلاء يعلنون عدم قدرتنا اللجوء للتحكيم الدولى إلا برضاء إثيوبيا، بينما شرط التحكيم راقد منذ اتفاقية 1929. ولذا.. بنى الحما والوطن شعبا وجيشا حى على الكفاح، هبوا ودافعوا عن مصر التى تتآكل يوما وراء الآخر، احموا سيادتها التى لن نصمت وهى تتراجع أمام تلك الخيبة.