تتميز حكوماتنا الرشيدة أنها لا تتحرك إلا بعد فوات الأوان.. ليتحول تحركها دوماً من إنفاذ إلى إنقاذ.. وتتحول آمال المواطن من مستقبل أفضل إلى أفضل المتاح!
إنها عادة حكوماتنا المتعاقبة.. فلماذا يبدو علينا الاندهاش الآن؟!
القصة مكررة وقديمة.. بل ربما تكون تكراراً لما يحدث فى كل ما نلاقيه من إرث دولة مبارك.. والذى لا أعلم متى سنتوقف عن ملاحقة تبعات فسادها الذى لا ينتهى!
الأمر هذه المرة يتعلق بصحة أكثر من خمسة ملايين مواطن هم تعداد السكان فى محافظة صعيدية يطلق عليها أهلها «عروس الصعيد».. لا أعرف سبب التسمية رغم أننى من قاطنيها منذ أن رأت عيناى هذه الدنيا.. ولا يطلق عليها أهل العاصمة شيئاً تقريباً.. ربما لأنهم لا يتذكرونها إلا فيما ندر.. أو بمعنى أكثر وضوحاً.. حين يملكون البال الرائق لها.
إنه المستشفى الجامعى الرئيسى بالمحافظة.. والملجأ الأول والأكبر للرعاية الطبية بها فى ظل غياب معتاد من مستشفيات وزارة الصحة.. حتى إن آخر الإحصائيات أفادت أنه يقدم أكثر من خمسين بالمائة من حجم الرعاية الصحية الأولية لأبناء الإقليم.. بينما تشترك تسع مستشفيات مركزية.. وأكثر من ثلاثين مستشفى خاصاً فى النسبة الباقية!
المستشفى يحتل مبنى قديماً متهالكاً.. يئن منذ عدة سنوات ولا يسمع أنينه أحد وسط أنين المرضى الباحثين عن علاج لا يجدوه إلا فى داخله وعلى أيدى أبنائه من الأطباء الذين يعملون بإمكانيات محدودة.. وفى ظروف أقل ما يقال عنها إنها قاسية..
محاولات عديدة تمت لترميمه ليحتمل أعواماً أخرى.. وفى كل محاولة يتم كتم الأنين المتزايد داخل المبنى العجوز دون جدوى.. حتى أتت اللحظة التى كانت ستأتى حتماً..
لقد أعلن مهندسه الاستشارى منذ عدة أيام وفاته إكلينيكياً.. وأعلن ضرورة أخلائه سريعاً للحفاظ على المرضى والأطباء..!
لقد قرر المبنى أنه لن يحتمل المزيد.. وأنه ينبغى عليه أن يتقاعد بعد خدمة شاقة وطويلة.. وبات ضرورياً البحث عن مكان جديد للمرضى الذين لم يعرفوا سواه من قبل.. وللطلبة الذين لن يتعلموا إلا من خلاله أيضاً!
محاولات عديدة ومجهود كبير بذله المسئولون عن الأمر.. بدءاً من السيد الدكتور رئيس الجامعة المهموم بالمستشفيات الجامعية منذ أن تولى منصبه.. ومروراً بإدارة كلية الطب نفسها.. محاولات انتهت بتقليص الخدمة المقدمة بنسبة كبيرة تقترب من العشر.. وتوفيق الأوضاع فى حدود المتاح.. والذى لا يكفى مريضاً لا يملك ما يحصل به على علاج.. إلا من خلال ما يقدمه هذا المستشفى العجوز!
الطريف أن أحداً لم يتحرك من حكومتنا الرشيدة.. وكأن الأمر لا يعنيها بالمرة.. أو أن الكارثة قد حدثت خارج حدود اختصاصها!!
لم يعلن أحد عن دعم سريع للمحافظة بعد أن فقدت مستشفاها الأكبر والأهم.. لم يصرح مسئول حكومى واحد عن مستقبل تلك المحافظة.. أو حتى عن مستقبل الطلبة التى باتت تبحث عن مكان تتعلم فيه!
كل ما رآه الناس هو مجهود الجامعة فى حدود إمكانياتها المحدودة بالتعاون مع محافظ الإقليم.. والتى لن تكفى بكل تأكيد..
السؤال يدور حول ما إذا كانت تلك الكارثة قد حدثت فى العاصمة.. هل كان الأمر سيحمل نفس التجاهل الحكومى؟.. هل كانت الحكومة ستكتفى بإجراءات الجامعة التى لا تملك سواها؟!
الإجابة هى بالطبع لا.. كنا سنجد التصريحات قد خرجت بسرعة واهتمام.. والسيد المسئول قد انتقل إلى مكان الحدث مصحوباً بميكروفونات الإعلام.. كنا سنجد الدولة كلها انتقلت إلى المستشفى المنكوب..!
سيدى الرئيس.. إن ملايين من مواطنيك يعانون الآن بحثاً عن مكان للعلاج فلا يجدون.. وآلافاً أخرى لا تجد مكاناً لتتعلم ويصيروا أطباء يخدمون الوطن..
سيدى.. الأمر بين يديك الآن.. نناشدك أن تلتفت إلى محافظة صعيدية صغيرة.. نناشدك أن تنقذ إقليماً كاملاً.. يعانى من التجاهل الحكومى منذ فترة طويلة.. نناشدك فى مستشفى جامعى جديد لطب المنيا.. ولمحافظة تعانى كثيراً.. وهى تبحث عن موقعها لدى الحكومة.. التى تتذكرها فقط.. حين تملك البال الرائق لها..!