فى مغلف شديد الأناقة تلقيت ممتناً كتيباً شديد الأناقة مطبوعاً على ورق مصقول، يوحى بتمويل شديد السخاء (110 صفحات) والعنوان شديد الإغراء «الحالة الدينية المعاصرة فى مصر» (2010 - 2014) صادر عن منظمة اسمها شديد الغرابة «مؤمنون بلا حدود»، والكتاب هو عبارة عما سمّوه «الملخص التنفيذى»، وهو يلخص ما قال إنه ورد (أو سيرد) فى دراسة شديدة الضخامة، اشترك فى إعدادها وإصدارها أكثر من ثمانين شخصاً، أمسكت بالكتاب الذى قيل إنه دراسة تحليلية وميدانية تستعرض الدراسة الضخمة. وما إن تلمست الكتابة التى أتت غير مصقولة، وإن كانت على ورق مصقول جداً، حتى صدمنى صاحب المقدّمة الأستاذ يونس قنديل، الأمين العام لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث»، حتى أربكتنى، فأنا الذى لا عمل لى سوى القراءة والكتابة أربكتنى مجموعة من العبارات المربكة والمرتبكة، التى تعمّد صاحبها أن «يتمعلم» على كل من يحاول القراءة، وبدلاً من أن يورد جملة واحدة متماسكة يشرح المعنى والمغزى للاسم المحيّر «مؤمنون بلا حدود» (ولا أعرف ما المقصود من «بلا حدود»؟ وهل يقصد الاتساع أو التمادى أم مجرد اسم يتزاحم مع الجمعيات المتزاحمة لاقتناص ما يرد من الخارج؟) بدلاً من ذلك يقحمنا يونس قنديل مباشرة فى عبارات «معقربة» يندر أن يفهمها قارئ عادى أو حتى شديد الثقافة فى زمن يكثر فيه المدّعون، ونقرأ وأرجوكم اصمدوا معى فلقد تفهمون «أن مواقف الاجتماع ذاته تجاه «الدينى» باتت تشهد مواقف استعراضية بامتياز تلتحق بالسجال المعرفى السطحى بغية تسجيل نقاط سريعة فى العراك السياسى المسيطر على ديناميكيات الاجتماع، ولقد انفرز عن تلك المواقف المجتمعية مطالبات مجتمعية جدية» (ص9)، وأيضاً «منذ اندلاع ما يُسمى الحركات الثورية، فإن المواقف الدينية لا تنفك تحاكم الاجتماع، كما اتضح بجلاء أن الاجتماع بدوره لا ينفك يتزايح مع تلك المواقف بالانتفاض العقلى الجذرى على مقولاتها وتمثلاتها» (ص10)، ويواصل الأستاذ قنديل إفهامنا أن الحركات السياسية و«الثورية» «تصب مباشرة فى محاضن التلقى الجماهيرى التى تضاعفت حدة ووتيرة تواصليتها مع فحوى ومطالبات هذه الاستدعاءات» (ص10).
وأكاد أستصرخ «سيبويه» وكل اللغويين والنحاة متوسلاً شرحاً مفهوماً، أو شبه مفهوم لما أراد أن يشرحه لنا أو كما قال هو «توسعة النقاش الجمعى حول القواسم القيمية المشتركة القادرة على أن تكون رافعة للنقاش الجدى وقاطرة لخلخلة التلبسات التى تعيق ذلك المخزون الرمزى المعزّز بالوجدان الدينى» (ص14).. ويا عزيزى القارئ لقد راجعت هذه النصوص خشية أن تظنها خطأً مطبعياً فهى هكذا كما أتت «بس وحياة أبوك فهمت حاجة؟» أم أننى الجهول الوحيد؟ ورغم ما شعرت به من حيرة وتأمل بلا أمل فى الفهم فقد مضيت فى القراءة التى ما إن تخلصت من صياغات الأستاذ يونس قنديل حتى أصبحت مفهومة ومفيدة فى كثير من أرجائها، ومن بين الأرقام المهمة، التى وردت فى شكل رسم بيانى نجد أنه فى عام 1982 كان عدد المساجد الحكومية 40.000 مسجد مع عدد محدود من المساجد الأهلية بعضها بقى تابعاً لوزارة الأوقاف، وفى عام 2014 بلغ عدد المساجد الأهلية بعد تخلصها من نفوذ الأوقاف أكثر من 80.000 و140.000 مسجد حكومى (ص36). وقرأت باندهاش تصريحاً منسوباً إلى عصام العريان (القائد الإخوانى ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة) يطالب فيه يهود مصر بـ«العودة من إسرائيل إلى موطنهم الأصلى وإفساح المجال للفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم»، وتعليقاً على ذلك أقول إن اليهود الذين سافروا أو هجروا من مصر قد غادروا فى عامى 1949 ثم 1956، أى منذ ما يقارب ستين عاماً أو سبعين عاماً. كما أن الجميع يعلمون أن أكثر من 90% من اليهود سافروا إلى فرنسا وإيطاليا، وليس إلى إسرائيل.
وثمة معلومات مهمة فى هذا الكتاب عن دور الإخوان فى محاولة السيطرة على مفاصل التعليم فى عدد من دول الخليج التى كانت حديثة الاستقلال والنشأة. ويورد البحث أرقاماً مذهلة عن مالية جماعة الإخوان ويُحدّدها تفصيلاً الاشتراكات - التبرعات من الداخل والخارج - حصيلة الزكاة فى الداخل والخارج - حصيلة أرباح المشروعات فى الداخل - حصة التنظيم من أرباح المشروعات خارج مصر. والمجموع فى عام 2012م 7069 مليون جنيه (ص78)، وللمقارنة نورد أن حجم الأصول المملوكة لجماعة الإخوان رسمياً عشية قرار الحل الأول (1948) وصل إلى خمسة ملايين جنيه، (وهو رقم كبير بمعايير هذا العصر). وفى الكتاب أيضاً حديث مهم عن مواقف كل من مشيخة الأزهر - جبهة علماء الأزهر (التابعة أساساً للإخوان) - دار الإفتاء - وزارة الأوقاف - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - هيئة كبار العلماء - المجلس الأعلى للطرق الصوفية. ودورها وتحالفاتها وتصارعاتها.. ويشير إلى مسألة بالغة الأهمية مرت على الباحثين دون أن تلفت نظرهم. وهى أن الشيخ جاد الحق عندما كان متولياً منصب المفتى تقارب إلى حد كبير مع الرئيس السادات بعد أن أفتى (26 نوفمبر 1979) بمشروعية الصلح مع إسرائيل بعد توقيع معاهدة الصلح معها، بما أكسب «السادات» سنداً دينياً، ودفع بـ«السادات» إلى التساهل مع فتوى أخرى صدرت فى الفترة ذاتها، وفيما كانت الحكومة بطلب من «السادات» وبدعم من «السيدة جيهان» تسعى لإصدار قانون لتحديد النسل كسبيل لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية أفضل، وأكد فيها «جاد الحق» تحريم إصدار قانون لتحديد النسل. وتوقف مشروع القانون بقرار من «السادات». وثمة معلومات مهمة أيضاً حول التشكيلات القبطية الجديدة التى ظهرت كبادرة لم تكن موجودة من قبل، مثل «أقباط من أجل مصر - جبهة الشباب القبطى - اتحاد شباب ماسبيرو - الاتحاد القبطى - حركة الحقوق المدنية للمسيحيين - المجلس الاستشارى للمنظمات القبطية»، وما صاحبها من تحركات ذات طابع جماهيرى غير مسبوق. ودراسة أخرى لمن سماه «المهمشون دينياً»، مثل الشيعة - البهرة - القرآنيون - البهائية - الأحمدية القاديانية (ص51). على أن هذا البحث به بعض أخطاء، منها مثلاً أن جماعة الإخوان تعرضت لأول قرار عسكرى بحلها إثر اغتيال المستشار الخازندار (ص75)، فثمة فاصل زمنى بين الواقعتين، وما إن أنهيت قراءة الكتاب الملىء بمعلومات مهمة، حتى تذكرت قصة الأعرابى الذى وقف فى السوق ليبيع ناقته بدينار، فلما أراد شخص شراءها قال البائع هى بدينار، لكن الرقية المعلقة فى عنقها بمائة دينار ولا أبيعهما إلا معاً.. فقال المشترى «والله إنها لمليحة لولا الملعونة فى رقبتها». فرفقاً يا أستاذ قنديل.