«مسخرة مقززة».. هو التعبير الأكثر دقة لوصف «جلسة الحوار الوطنى برئاسة الجمهورية حول أزمة بناء سد النهضة فى إثيوبيا».. فكما نعرف جميعاً هناك نوع من «المسخرة» نلجأ إليه للترويح عن النفوس المتعبة، وهناك «مسخرة» تثير الضحك ولا تترك فى النفس أى إحساس بالمهانة أو الدونية أو الخجل.. ولكن هذه «المسخرة» التى شاهدها العالم كله أمس الأول وتجلت فيها رئاسة مصر ونخبتها فى الحكم والمعارضة، فى وضع مخل بآداب وتقاليد السلوك السياسى والدبلوماسى، أصابت المصريين جميعاً -باستثناء جماعة الإخوان- بطوفان من مشاعر الخزى والعار والحسرة على قيمة ومقام هذا البلد الكبير الذى مرغته نذالة وخسة «التتار الجدد» فى أوحال انعدام الكفاءة وفقدان الرؤية وضعف حاسة الشرف الوطنى.
منذ أيام قليلة كنت أطالع على «الفيس بوك» بعض اللوحات الساخرة، وتوقفت قليلاً أمام لوحة تحكى قصة «رهان فى النذالة» بين ثلاثة أشخاص كل منهم يدعى أنه أكثر نذالة من صديقيه، وبعد اتفاقهم على الدخول فى «رهان» لاختبار ادعاد كل منهم، قام الأول بالتعرض لسيدة كبيرة فى السن تمشى فى الشارع بصعوبة بالغة وهى تستند إلى عكاز.. وعندما رأته السيدة مقبلاً عليها ظنت أنه هبّ لمساعدتها فى صعود الرصيف، فإذا به يطرحها أرضاً ويكسر العكاز الذى تتوكأ عليه.. ولكى ينتصر النذل الثانى عليه سارع إلى السيدة التى ظنت أيضاً أنه جاء لإنقاذها، فإذا به يعريها من ملابسها أمام المارة ويكشف عوراتها للجميع. ثم وقف الأول والثانى فى مواجهة الشاب الثالث الذى كان واقفاً كالصنم يشاهد ما يحدث.. وعندما سألاه: ما الذى يمكنك أن تفعله بعد ذلك لتثبت أنك أكثر نذالة؟. فأجابهما: لن أفعل شيئاً.. يكفى فقط أن أقول لكما إن هذه السيدة هى «أمى».. وقد تركتكما تفعلان بها كل هذا ولم أتحرك لإنقاذها!
نعم، لقد قفزت هذه الحكاية الموجعة إلى عقلى واحتلت كل وجدانى، وأنا أشاهد «محفل النذالة» فى الحكم والمعارضة، وهو يضرب «مصر» ويطرحها أرضاً ويكسر «عكازها» -النيل- الذى لا سند لها غيره، ثم يعريها ويكشف كل عوراتها أمام العدو والصديق بكلام متهافت مخجل من قبيل: «إحنا نطلّع إشاعات إن مصر عندها طائرات متطورة علشان إثيوبيا تخاف» (للمناضل أيمن نور)، ومن قبيل «إحنا نبعت وزير الدفاع يزور باب المندب ويكلف سفناً حربية سريعة بتفقده» (للمناضل أبوالعلا ماضى).. ومن قبيل «أطالب الرئيس بعدم صنع عداوة مع إثيوبيا الصديقة وضرورة الربط الكهربائى معها.. وبلاش السد العالى، ونعتمد على عادل إمام وأبوتريكة فى حل المشكلة» (للمناضل مجدى أحمد حسين)!
لقد حدث هذا العار لـ«مصر» ونحن المواطنين فى مقاعد الفرجة.. نشاهد ونكاد ننفجر غيظاً وقرفاً وخجلاً من هذا العار، ولكننا لا نفعل شيئاً مثل النذل الثالث فى «رهان النذالة» الذى ترك «نذلين» خسيسين يضربان أمه ويكسران عكازها، ويكشفان عوراتها للمارة ولكلاب السكك، دون أن ينطق أو يتحرك لإنقاذها من براثن الأجلاف والمتلونين والباحثين عن أدوار أمام الكاميرات، وهم يمرغون كرامتها وكرامتنا فى الوحل.
والمثير للتقزز -أكثر من تعرية عورات مصر أمام العالم كله- أن كل الشواهد تؤكد أن إذاعة هذه المسخرة لم تكن خطأً غير مقصود، وإنما كان مدبراً ومقصوداً لأسباب باطنية يعرفها جيداً المحفل الإخوانى الذى تربى على السرية والتآمر فى أتفه الأمور التى تخصه، إذا به عندما يناقش قضايا وطننا ويدعو للنقاش أبعد الناس عن فهم هذه القضايا، يستدعى الكاميرات ويأمر التليفزيون بإذاعة بث حى ومباشر لهذه الفضيحة المقزرة.
لقد انتهك هذا «المحفل» شرف مصر.. أهانوها وضربوها فى مقتل، وها نحن مثل «النذل الثالث» فى حكاية «رهان النذالة» نناقش الأمر كما لو أنه خلاف على قضية يجوز فيها أن يبقى الود قائماً بيننا رغم الخلاف فى الرأى.. ولكن الحقيقة أن ما حدث يكشف مرة أخرى عن أننا أمام عدو لمصر، أكثر خطراً من أى احتلال عرفناه.. وأمام إهانة لا تغسلها إلا ثورة عارمة تكنس كل هذا العفن من مواقع صنع القرار.. ومن أماكن صنع الكرامة.. وتكسحه إلى مزبلة التاريخ.