يمكن وبلا مبالغة أن نستدعى عشرات الأمثلة العامية المعروفة فى مقدمة هذا المقال وكلها يصلح مع مضمونه وموضوعه.. من المثل القائل إن «اللى إيده فى الميّه مش زى اللى إيده فى النار» إلى «اللى على البر عوام» إلى «آدى الجمل وآدى الجمال».. إلى آخره، فالفتوى بغير علم باتت حالة مزمنة، والكثيرون لا يعرفون أن ما يعلن فى عالم السياسة نسبة ضئيلة جداً مما يحدث، وأن ما فى الكواليس أضعاف أضعافه، ومع ذلك تعالوا نضع معادلات السياسة المعلنة المطروحة أمام الرئيس السيسى والمطلوب منه حلها والتعامل معها ومواجهتها أمام الجميع لنعرف قدرات البعض على تحمل المسئولية شرط النجاة بمصر من تشابكات وتعقيدات لا أول لها ولا آخر!
ربما كانت الأزمة السورية نموذجاً ومثالاً مهماً، فأطراف عربية تقول بعد تولى الرئيس السيسى إنها ستدعم مصر اقتصادياً فى وقت كانت تحتاج مصر فعلاً إلى وقوف أشقائها بجوارها إلا أن هذه الأطراف لها أهداف فى سوريا، وبالتالى كانت ترى المنطق يقتضى أن تنحاز مصر إليها فى الأزمة السورية لكن مصر كان من المستحيل أن تفعل وقد تولى أمرها من يعرف قدرها ويعى تاريخها ويدرك أبعاد أمنها القومى ويعلم قيمة سوريا ومكانتها لدى مصر، نقول كان من المستحيل أن تختار تدمير سوريا مقابل دعم ربما تضاعف إن وافقت وقبلت بينما حدث العكس.. ورفضت مصر مقايضة مواقفها وانحازت للأمن القومى العربى ولشعب عربى شقيق دون الحاجة لأى دعم أو أموال!
فى سوريا باتت مصر فى معسكر مصلحة واحد مع روسيا وإيران ضد معسكر آخر يضم العدو الإسرائيلى من الباطن وفى العلن هذه الأطراف العربية مع تركيا وأمريكا ودول أوروبية.. وهذا يؤدى إلى مزيد من الاختلاف مع أمريكا ومزيد من تناقض المصالح مع هذه الدول الأوروبية ومزيد من التقارب مع روسيا إلا أن روسيا تتوقف طويلاً أمام حادث الطائرة الروسية التى سقطت فى سيناء وتطول معها مفاوضات عودة السياحة ومفاوضات محطة الضبعة، بينما تحتاج مصر إلى البترول من مصادر أخرى فتجد فى الأشقاء فى العراق الملجأ والملاذ لكن البترول العراقى لا يأتى إلى مصر إلا برضا إيرانى فى حين لا تقبل مصر موقف إيران فى اليمن وكذلك تبقى حريصة على علاقاتها بدول عربية شقيقة لم تزل علاقاتها بإيران متوترة رغم أن هذه الدول العربية غير متورطة فى سوريا ولا فى تدميرها!!!
إضافة للتعقيد السابق تجد معارضين مصريين يهاجمون الرئيس لأن علاقاته جيدة مع الدول التى تشارك فى المؤامرة على سوريا ويرفضون أى دعم اقتصادى منها وبينما مصر تخسر هذا الدعم انحيازاً لثوابتها ولقرارها الحر المستقل وتنحاز للشعب السورى ولحريته فى تحديد مصيره وإعادة بناء دولته تجد هؤلاء المعارضين أنفسهم ضد الرئيس أيضاً ويهاجمونه!!
وبينما العلاقات مع روسيا كما أشرنا تتغير معادلات الانتخابات الأمريكية ويأتى إلى البيت الأبيض المرشح الذى وضع فى برنامجه الحرب على الإرهاب وداعش والإخوان ووعد باعتبار الأخيرة جماعة إرهابية! وهذا كله نقيض لما كانت عليه سياسة الولايات المتحدة.. كان منطقياً أن مصر وبحكم مصلحتها تعلن ترحيبها بل وسعيها لأى تعاون مع الرئيس الجديد، لكن هنا أيضاً يصطدم بطموحات روسية فى علاقات أقوى وأكبر مع مصر ويتصادم أيضاً مع إعلان الرئيس الأمريكى فى برنامجه أيضاً اعتبار القدس عاصمة أبدية لدولة العدو الإسرائيلى، ويبدو للوهلة الأولى أن مصر تهرول إلى معسكرها القديم مع الولايات المتحدة رغم أن الرئيس السيسى هو بنفسه وفى ظل التصادم فى السياسات مع أمريكا أوباما هيلارى هو من قال إن «الأدبيات السابقة فى العلاقة مع الولايات المتحدة لا تلزمنى»! فليس معقولاً أنه سيهرول ويغير موقفه بعد رحيل «أوباما» ومجىء «ترامب» إلا أن ضبط العلاقات بتعقيداتها السابقة مشكلة كبيرة تحتاج حنكة كبيرة، وعندما نضيف الصين إلى المعادلة وما وصلت إليه العلاقات معها من تطور وقوة وترجمة ذلك إلى التبادل التجارى الكبير وبالعملات المحلية وخطط الصين لمشروعاتها فى قناة السويس واعتبار مصر منفذاً إلى أفريقيا لكن شركاتها فجأة تبالغ فى تكلفة إنجاز مشروع العاصمة الجديدة فضلاً عن أنها لن تكون سعيدة بأى تقارب كبير بين مصر وأمريكا لوجدنا حجم المعادلة وصعوبتها!
المعادلات الدولية عديدة تحتاج عدة مقالات لكى يستوعبها المواطن المصرى لكن المساحة تحتم الانتقال إلى ملفات داخلية.. وفيها الأزهر والسلفيون والمثقفون والإبداع وحرية الرأى وتجديد الخطاب الدينى وكل منها أيضاً يحتاج إلى التناول لشرح أبعاد وتعقيدات وتشابكات تبدو خفية لكن نتوقف عند ملف قرض صندوق النقد.. والقصة باختصار أننا نقف أمام رغبة رئيس جديد فى تعويض مصر ما فاتها من توقف التنمية فيها بل جرى العكس فى مشروع الخصخصة وبلا مشروع قومى يستوعب طاقات الناس وأحلامهم يعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم وأن قدرتهم على إنجاز مشروعات تاريخية وكبيرة لم تزل كما هى.. فكان الانطلاق فى مشروعات كبرى فتحت كلها فى توقيت واحد وكلنا نعرفها من قناة السويس إلى الضبعة ومن المليون ونصف المليون فدان إلى المليون ونصف المليون وحدة سكنية ومن العلمين الجديدة إلى العاصمة الجديدة.. كانت وجهة نظر الرئيس أيضاً أن المشروعات الكبرى قاطرة التنمية فهى التى تضخ الدماء فى شرايين الاقتصاد كله حيث تدور مصانع الحديد والأسمنت والزجاج والبلاط والسيراميك والمصابيح والأسلاك الكهربائية والدهانات والرخام والأخشاب والسجاد والمسامير وغيرها وغيرها، ولكن فجأة تنخفض التجارة العالمية فلا يأتى المعدل الذى انتظرناه من قناة السويس وإنما تقريباً بقيت العائدات كما هى فى ظل تحديات عديدة، وفجأة أيضاً يتوقف تقريباً الدعم الاقتصادى من الأطراف العربية التى أشرنا إليها فى بداية المقال، وهنا نصبح أمام معادلة قاسية: هل نوقف المشاريع الكبرى؟ أم نبيع قرارنا واستقلالنا لاستمرار المساعدات؟ أم نقترض من الصندوق؟!!
اتفضل اتخذ القرار الذى يعجبك من الاحتمالات الثلاثة السابقة لكن المدهش أن المعارضين يرفضونها كلها ويقولون إنه لا توجد إنجازات فى مصر ثم يهاجمون المشروعات الكبرى ويقولون إن المشاريع الصغرى هى قاطرة التنمية فى تجاهل تام لمشروع آخر اسمه «مشروع الـ200 مليار للصناعات الصغرى» يؤكد عدم تجاهل المشروعات الصغرى أيضاً لكن تضاف البيروقراطية المصرية العريقة كتحدٍ آخر أمام الرئيس ليضاف إلى المعادلة الصعبة تعقيد جديد!
السؤال الآن: وباعتبار ما سبق للمثال وليس للحصر وبشرط الموضوعية ومصالح الناس ومن دون العودة للوراء زمنياً وبالأرقام وبالظروف الموجودة وليس بالخطب ولا بالإنشاء ولا بالهتاف ماذا تفعل لو كنت مكان الرئيس؟!