فى تاريخ الشعوب شخصيات لا يجوز تجاهلها مهما اتسعت درجات الخلاف معها، خصوصاً إذا كانت نجحت فى دخول كتب التاريخ من باب الانحيازات الوطنية والاجتماعية وتحولت من مجرد زعامة إلى جزء من تاريخ الوطن، فيصبح إنكارها بمثابة إنكار للتاريخ ذاته.
قبل 38 عاماً وتحديداً فى عام 1979 ألقى القبض علينا ونحن نقوم بتعليق ملصقات وصور لـ«عبدالناصر»، وأمام وكيل النيابة بادر وسألنى «هو إيه حكاية الرجل ده؟ اللى يشتمه وهو عايش يتحبس، واللى يمدحه وهو ميت عاوزينه يتحبس»، وابتسم وقال «إخلاء سبيل من سراى النيابة».
تذكرت هذه الواقعة وأنا أطالع تصريح وزير الصحة، والحقيقة مش فاهم لما «عبدالناصر» هو السبب فى مأساة منظومتنا الصحية انت ليه عاوز تعمل نظام اجتماعى للرعاية الصحية؟ وليه وافقت على الانضمام إلى حكومة ملتزمة دستورياً بأكثر مما حقّقه «عبدالناصر» والتزم به؟
هل الوزراء ينضمون إلى الحكومة الآن كجزء من الوجاهة وهم لا يدرون أن هناك مسئوليات والتزامات دستورية وقانونية واجتماعية وسياسية، وأن انضمامه إلى الوزارة لا يعنى أن يسير «على هواه» ويلقى بالكلمات هنا وهناك دون حسيب أو رقيب؟
هل يعتبر الوزراء أن وجودهم فى مناصبهم الوزارية يعنى أنهم أحرار فى إطلاق التصريحات، حتى لو كانت ضد التزاماتهم الوظيفية كوزراء تحكمهم التزامات، وأن تجاوزها خطأ قد يستوجب الإقالة؟
هل جلس رئيس الوزراء مع وزرائه الذين انتقاهم واختارهم لتولى مسئولية هذا البلد فى هذه اللحظة الصعبة من تاريخ الوطن وشرح لهم ما عليهم ومسئولياتهم والتزاماتهم؟ أم فقط اختارهم وأقسموا اليمين وسدّوا آذانهم واستباحوا المنصب، وكأنه جزء من ملكياتهم الخاصة أو من إرث آبائهم وأجدادهم.
إذا كانت المسئولية الاجتماعية لمفهوم العلاج والمنظومة الصحية لا تروق لمزاج السيد الوزير، فلماذا قبل بالمنصب ووافق عليه؟ وهل أصبح الوزراء والمسئولون فى مصر يستسهلون إثارة الأزمات، وكأننا دولة تعيش فى رفاهية ورغد العيش ولا تجد ما يُنغّص على شعبها، فتثير أزمات لمجرد «المنظرة».
ثقتى مطلقة فى أن الوزير نطق ما لا يجوز النطق به، وغير مقتنع نهائياً بالنفى الذى أصدره، فالكلام كان فى العلن داخل لجنة برلمانية وأمام نواب موقرين، وأعتقد أنه كان من الأجدى أن يتم توجيه الوزير من رئيسه إلى مسار مختلف بدلاً من النفى، فلا مجانية التعليم ولا مجانية العلاج كانت السبب يا معالى الوزير.
وأنت وزير لا بد أنك تفهم أن تقييم المراحل التاريخية لا يتم بمعايير الحاضر، وإنما بمعايير اللحظة التى كانت، لكن يبدو أنك لا تعرف هذا الفهم، فأحياناً «لما الفلوس تجرى فى إيدك»، بتنسى تاريخك.
«ناصر» مثل أى شخص قابل للخطأ، وهو ليس نبياً لنعصمه من الخطأ، وهو له ما له وعليه ما عليه، والشعب المصرى حجز له مكاناً فى كتب التاريخ لن يستطيع البعض زحزحتها، وعلينا أن نتعلم كيف نختلف ونحترم تاريخنا ورموزنا التاريخية.
كان من الأفضل أن تعتذر، لأن الاعتذار من شيم الأقوياء.