هل ربنا سبحانه وتعالى يكره الفقراء؟.. سؤال قد يبدو عبثياً أو ساخراً، لكن البحث عن إجابته قد يكشف حالة الضلالات الفكرية التى نعيشها، والانسياق خلف غيبيات تفسر واقعنا المؤسف، وتنسبه إلى «قوة عليا» غير منظورة، بينما «الجانى» مرئى ومعروف!.
عندما ضرب الزلزال مصر، فى أكتوبر 1992، سقطت معظم المبانى القديمة، وتحولت الأنقاض إلى مدافن للفقراء، وتصدعت بعض البنايات الجديدة بسبب الفساد والغش فى مواد البناء، فخرجت علينا الأصوات السلفية تحذرنا وترهبنا لأن (الزلزال عقاب من الله)، ولم يفسر لنا أحد: ما الذنب الذى اقترفه فقراء مصر، ممن باتوا أياماً وليالى فى العراء، وعاشوا فى مخيمات، وتسولوا الخبز والماء.. ليعاقبهم الله؟!.
تذكرت هذه الآراء الشاذة المخيفة، عندما قرأت أن خطيب مسجد «عالم الغزال» بشرق مدينة مرسى مطروح، قال فى خطبة الجمعة الماضى: إن الله هو الذى رفع الأسعار وليس الدولار أو الحكومة، وأرجع السبب فى ذلك إلى أن (الله يريدنا أن نعود إليه بعد زيادة ذنوبنا والشر بيننا).
وأضاف خطيب المسجد أنه (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا تم رفعه إلا بتوبة)، طيب يا مولانا نتوب عن إيه؟.. لك السمع والطاعة.. قالك: «توبوا إلى الله، أيها المسلمون، وتوقفوا عن متابعة المسلسلات الهندية التى أفسدت علينا أولادنا وبناتنا فى البيوت».
ورغم أن البيوت كلها تتابع مسلسلات «تركية»، وليست «هندية».. فالسؤال الأهم: هل يدافع خطيب «عالم الغزال» عن الحكومة أم ضمنياً يعتبرها -أيضاً- ابتلاء؟. وهل وصل «النفاق»، بأحد الأئمة المحسوبين «وظيفياً» على «وزارة الأوقاف»، إلى استغلال المنبر لتشويه الإسلام بهذه الصورة المهينة؟.. فأين متابعة وزارة الأوقاف؟.
هل هذه محاولة لقصف جبهة الدكتور «محمد مختار جمعة»، وزير الأوقاف، الذى قال فى آخر تصريحاته الصحفية: «إنه لن يجرؤ أى منتمين لجماعة الإخوان المسلمين على الصعود إلى المنابر فى المساجد».. فقررت خلايا الإخوان، (أو وعاظ الأزهر بوصفه ينازع الأوقاف على المساجد)، إحراج «جمعة» وإعلان وجودهم وسيطرتهم على المنابر؟.
أم أن هذا الخطيب ينافس الإعلامية الشهيرة التى قالت للشعب: (رفض الغلاء مثل عدم قبول قريش بالنبى.. وأنه اختبار من الله للمصريين وليس من النظام، وذلك عقاباً لهم على الاستهلاك الزائد من أجل أن يتحملوا الغلاء والظروف التى تمر بها البلاد)!.
إنها سلسلة من الحلقات المتصلة لتغييب الناس، وتكريس حالة «الدروشة السياسية»، والتدين الشكلى الذى دفع الناس سابقاً لاختيار «مرسى» رئيساً للبلاد، لأنه «مدعوم من الله»، كما قالت د. «منال أبوحسن» القيادية بحزب «الحرية والعدالة» آنذاك.. فلم نر له إنجازاً غير أنه كان «أول رئيس مدنى منتخب ملتحٍ»!!.
هكذا أدار الإخوان المنابر الإعلامية والدينية وقتها، وامتد منهجهم، وغيرت بعض الوجوه أقنعتها، وعدنا للمربع رقم صفر.. وعندما تقول أن «الأزهر الشريف» مخترقاً من الإخوان، فأنت مذنب فى حق الإسلام نفسه وليس المؤسسة الدينية فحسب.
وعندما نقول إن معركة «الخطبة المكتوبة» أدارها الأزهر لفرض هيمنته على المساجد، حتى ولو احتلتها خلايا الإخوان النائمة، فقد فشلت وزارة الأوقاف فى إقرارها، بعدما أعلن شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» تحديه وجبروته فى بيان رسمى صادر عن هيئة كبار العلماء بالأزهر لرفض الخطبة المكتوبة، ووجه تعليماته لقيادات المشيخة بعدم الحديث فى هذا الأمر وتجاهله تماماً (أى التمرد عليه).. حتى وصلنا لهذه النتيجة المتطابقة مع منهج «لجنة السياسات» بالحزب الوطنى المنحل، التى كان «الطيب» أحد أعضائها.
دم هذا الشعب مهدر بين «الأزهر والأوقاف»، نحن من ندفع ضريبة الصراع بينهما، ونسدد فاتورة انحياز القيادة السياسية لمشيخة الأزهر.. «جمعة» يطالب المشيخة بتنقية صفوفها من المتشددين والمتطرفين، ثم يلتزم الصمت فى قضية «الطلاق الشفهى»، رغم أنه عالم.
وشيخ الأزهر يقرر فى خطاب رسمى «احتكار الملكية الفكرية» لقضايا المجتمع والبشرية جمعاء من (الديمقراطية وزواج المثليين مروراً بمعاملات البنوك وصولاً لقضايا المرأة من النقاب إلى الميراث)!.
وبين الوزارة والمشيخة لن يفيدك أحد برد شافٍ: هل يرضى الله على الحكام والحكومات، ويكره الفقراء؟!.
أليس العبيد والفقراء أول من آمنوا برسالة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذى جاء بالهدى ليساوى بين الناس؟.. أليست «الزكاة» أحد أركان الإسلام، و«العشور» وصية كتابية فى المسيحية إنصافاً للفقراء.. فلماذا يبتلينا الله بحكومة عمياء تتخبط فى سياساتها، و«مجاعة» لا يعرف سوى الله إلى أين تصل، ورجال دين وفقهاء يخيطون عباءاتهم بالذهب من أموال دافعى الضرائب الذين لا يعرفون شيئاً حتى عن (صندوق النذور)!.
نحن نؤمن بالقضاء والقدر فى الزلازل والبراكين، وله فى ذلك حكمة لا نعلمها، لكن تسونامى الدولار، الذى تتحمل وزره الحكومة لم يقع على العصاة وحدهم، لقد ضرب الفقراء فى مقتل وأسقطهم فى قاع الحياة.
«لا حيلة فى الرزق».. لكن هناك ألف حيلة فى تحديد الأولويات، وفى اختيار الحكومة والقيادات، فإن كانوا هم «ابتلاء».. أو كانوا هم «البلاء»: «ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا».