غداة إعلان دولة إسرائيل، بدأ رئيس الوزراء آنذاك ديفيد بن جوريون، بتأسيس عدد من الهيئات والمنظمات، التى رأى أنها ضرورية وحيوية لتعزيز الدولة الوليدة، التى تعيش فى محيط من العداء، وتواجه التحديات الجسام.
من أولى الهيئات التى حرص بن جوريون على تأسيسها آنذاك «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهى الهيئة التى ألزمت السلطات من خلالها جميع رؤساء التحرير فى صحف الدولة كافة بالاشتراك فى عضويتها، والامتثال لقراراتها.
تحدث بن جوريون، فى اجتماع تدشين الهيئة لرؤساء تحرير الصحف، ليعطيهم ما يمكن وصفه بالتوجيه الاستراتيجى لعملهم، فقال: «يجب علينا أن نزن أقوالنا، ولا نعطى العدو معلومات، ولا نزرع الفتنة والفوضى فى شعبنا».
ستستمر إسرائيل بعد ذلك فى الامتثال لتوجيه بن جوريون الاستراتيجى، وستُسخِّر آلة الدعاية والإعلام من أجل الإعلام الحربى، حتى إن رئيس الوزراء اللاحق شارون سيضم إلى صلاحياته سلطة «الرقابة على أنظمة البث»، فى العام 2001.
لكن التطورات التى طرأت على أنظمة الاتصال، وحالة الانفتاح والتعدد التى ميزت الوسط الاتصالى الدولى والإقليمى والمحلى لاحقاً، ستجبر الدولة العبرية على إجراء تغييرات جوهرية فى تلك الاستراتيجية.
سيأتى المنظرون الإسرائيليون لاحقاً ليطالبوا إعلام الدولة العبرية بـ«كسب العقول والقلوب»، بموازاة «تحطيم معنويات الأعداء والخصوم، ورفع الروح المعنوية للمقاتلين والشعب».
ستحافظ إسرائيل لاحقاً على مجال إعلامى منفتح ومتعدد إلى حد ما، وستسمح بوجود أصوات معارضة، وستنشر صحافتها موضوعات موثقة عن فساد فى الحكومة، وستطال بعض تلك الموضوعات رئيس الوزراء نفسه، كما لن تستثنى وزارة الدفاع.
تشير التجارب التى مرت بها إسرائيل فى هذا الصدد إلى تحول جوهرى، سيمكن وصفه بأنه أخذ آلة الدعاية والإعلام المصاحبة للحرب من موقع «الدعاية الفجة» إلى مساحة واسعة تعتمد «استراتيجية متكاملة»، وهى تجربة جديرة بالدراسة بكل تأكيد.
ستتضمن الاستراتيجية الجديدة طيفاً عريضاً من المنتجات والأنشطة الإعلامية، ولن تقتصر على الهتاف والغناء والتأييد المُلح، كما ستستخدم أساليب اقتراب ذكية، ولن تكتفى بالدعاية المباشرة.
بدأ السياسيون العقائديون بلفت أنظارنا إلى مدى تأثير الإعلام فى صياغة الرأى العام وبلورته أثناء الصراعات والحروب؛ فها هو هتلر يقول فى كتابه «كفاحى»: «إن دور حاجز النار الذى تنفذه المدفعية، ستقوم به فى المستقبل الدعاية، التى ستعمل على التحطيم المعنوى للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها».
وقد كان الزعيم السوفييتى الشيوعى نيكيتا خروتشوف أكثر وضوحاً فى ذلك؛ إذ قال بدوره: «الصحافة سلاحنا الفكرى والأيديولوجى، فإذا كان الجيش لا يستغنى عن السلاح فى القتال، فإن الحزب الشيوعى لا يستطيع القيام بأعماله فى الميدان الفكرى والأيديولوجى بغير سلاح الصحافة».
وحين حاول البروفيسور الأمريكى الشهير فى جامعة هارفارد، جوزيف ناى، أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأى العام فى كتابه المهم: «القوة الناعمة: سبل النجاح فى عالم السياسة الدولية»، الذى صدر فى العام 2004، قال إن «المعارك لا يمكن أن تُربَح فقط فى ميادين القتال، وأن الكاسب فى الحرب هو ذلك الذى تكسب قصته فى الإعلام».
إنها حرب إذن تلك التى تخوضها بعض وسائل الإعلام من أجل إحداث تأثير معين فى نفوس جمهور معين لخلق رأى عام بعينه؛ أو هى إحدى أدوات تلك الحرب.
يحدث هذا فى الشرق كما يحدث فى الغرب تماماً، لذلك، فقد لجأت التنظيمات والجماعات السياسية ذات الارتكاز الدينى إلى تطوير منظومات إعلامية متكاملة.
سيمكننا أن نرصد موقعاً حيوياً للأنشطة الإعلامية فى استراتيجية جماعات مثل «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» و«الإخوان»، وهى أنشطة تتوافر لها موارد وتمويلات كبيرة.
تؤكد غالبية الدراسات والأبحاث التى أجريت فى الواقع السياسى والاجتماعى العربى فى العقود الخمسة الأخيرة أن وسائل الإعلام تلعب دوراً مهماً فى بلورة الرأى العام وتشكيل اتجاهاته خلال فترات الحرب والصراعات.
تقول الباحثة هالة بغدادى فى دراستها التى حصلت بها على درجة الدكتوراه من كلية الإعلام، جامعة القاهرة، عام 2007، تحت عنوان: «التغطية الإخبارية للفضائيات العربية»، إن «القنوات الإخبارية تحدث تأثيراً بالغاً فى اتجاهات الرأى العام العربى تجاه الأحداث الجارية».
وتشير الباحثة فى رسالتها إلى أن نتائج أبحاثها التطبيقية أظهرت أن بعض القنوات الإخبارية تمتلك القدرة على «إقناع الجمهور العربى بتبنى وجهة نظر جديدة تجاه القضايا العربية».
وفى دراستها المعنونة بـ«دور الإعلام الفضائى العربى فى الثورات العربية»، المقدمة إلى مؤتمر جامعة «فيلادلفيا» السابع عشر، بعمان، الأردن، فى نوفمبر 2012، توصلت الدكتورة مى العبدالله إلى أن «الفضائيات العربية مكنت الجمهور من متابعة القضايا الحيوية بصورة أفضل، وباقترابها من الشارع العربى أصبحت ذات تأثير أكبر على الناس، وبالتالى باتت داعماً حقيقياً لنجاح أى ثورة أو انتفاضة تحدث فى المنطقة».
يقول الكاتب الأمريكى فيليب سيب، معلقاً على أحداث الغزو الأمريكى للعراق فى العام 2003: «لا تخاض معركة كسب العقول والقلوب فى منطقة الشرق الأوسط فى شوارع بغداد فقط بل فى نشرات الأخبار وبرامج الفضائيات الحوارية»، فقد رأى «سيب» أن الأساليب التقليدية لصنع السياسة الدولية أوقات الأزمات «قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد والبث الفضائى وأدوات أخرى عالية التقنية».
لكن القدرة على إحداث التأثير المطلوب فى أوقات الصراع المحتدمة باتت تتطلب تكنيكات جديدة، وهى تكنيكات تنطلق من ضرورة التخلى عن فكرة «الرسائل المباشرة البسيطة»، التى يتم توجيهها من آلة الدعاية الحكومية؛ مثل تلك التى قامت بها الدعاية الناصرية فى مواكبة هزيمة يونيو 1967، أو تلك التى اعتمدتها الحكومة العراقية خلال حرب الخليج الأولى مع إيران (1980- 1988)، وما تلاها خلال أزمة احتلال الكويت، وصولاً إلى تحريرها، الذى انتهى باحتلال العراق نفسه، وكان عنواناً لهزيمة فكرة الدعاية الحربية المباشرة الفجة.
لا يمكن أن ينصح متخصص أى حكومة أو سلطة بتجاهل تأثير الإعلام ودوره فى صناعة الرأى العام؛ وهو دور لا يقل بطبيعة الحال عن أدوار مؤسسات الدولة الصلبة.
لكن الاعتقاد بأن المعارك يمكن أن تُكسب فقط بالإعلام هو اعتقاد خاطئ، والاعتقاد بأن المعارك يمكن أن تُخسر، والدول يمكن أن تنهار بالإعلام فقط أيضاً اعتقاد خاطئ.
يأخذنا هذا إلى حسابات دقيقة لدور الإعلام فى الحروب والصراعات السياسية، والذى نعرف أنه مهم وحيوى لكنه لا يقوم مقام المؤسسات الأخرى ولا يُغنى عن أدوارها.
سيأتى بعض القادة المعاصرين ليحاولوا أن يبالغوا فى أهمية الإعلام لكى يلعب أدوار مؤسسات أخرى، أو يحولوه إلى أدوات دعاية فجة مباشرة، وسنؤكد لهم أنهم يرتكبون أخطاء كبيرة، وأن الأفضل هو بناء مجال إعلامى متعدد ومنفتح وقوى ومسئول، عوضاً عن الأساليب التى جربتها الحكومات قبل عقود طويلة ولم تثبت نجاحاً.