تأمل معى التصريح الآتى: «قال اللواء السيد نصر، محافظ كفر الشيخ، إن العمل بمشروع المزرعة السمكية المقامة ببركة غليون التى تعد أكبر مزرعة فى الشرق الأوسط يتم على قدم وساق من أجل الانتهاء منه فى أسرع وقت ممكن». كثيراً ما أتوقف أمام ميل بعض المسئولين إلى استخدام «أفعل التفضيل». لعلك سمعت عبارات أخرى شبيهة بعبارة «أكبر مزرعة سمكية فى الشرق الأوسط»، إذا لم تكن، تعالَ أذكرك ببعض ما تداولته وسائل الإعلام فى مصر خلال الأشهر الأخيرة: «مصر تبنى أكبر مشروع كهربائى بالمنطقة».. «تنفيذ أكبر مدينة (ملاهى) فى الشرق الأوسط فى العاصمة الجديدة».. «إطلاق أكبر مشروع لإسكان الشباب فى الشرق الأوسط».
كلنا يتمنى أن تكون مصر دائماً الأكبر والأقدر والأغنى والأجمل، لكن الإفراط فى استخدام صيغة «أفعل التفضيل» يعكس تقديماً إعلامياً للمشروعات، أكثر مما يُعبّر عن واقع على الأرض. فمن يتعامل مع حقائق الواقع لا بد أن يتواضع قليلاً، ولا يوغل فى استخدام المفردات الفخمة الضخمة، الطنانة الرنانة، التى قد تقرع الأذن، لكن من الصعب أن تدخل «الدماغ»، إلا إذا كان ثمة تعبير أو ترجمة لها على أرض الواقع. الواقع الصوتى مهما كان طنينه لا يُغنى عن الواقع الموضوعى شيئاً. وقد خرج المفكر السعودى عبدالله القصيمى ذات يوم يصف العرب بأنهم «ظاهرة صوتية»، فهم يطربون للصوت أكثر مما يكترثون بالصورة، ويعيشون عبارة «كلى آذان صاغية»، أكثر مما يتمثلون عبارة «العقل زينة». الغرق فى الحالة الصوتية أحياناً ما يؤدى إلى الغرق، وأظن أن تاريخ مصر وغيرها من الدول العربية يحتشد بالكثير من الأمثلة الدالة على هذه الحقيقة.
الموضوعية مطلوبة، والوصف المتحفّظ المتأنى خير من المبالغة المتعجّلة، ومطلوب من المسئول أن يضع عينه على الواقع، وليس على الإعلام من ناحية، أو على القيادة الأعلى من ناحية أخرى. الانسياق وراء سحر صيغ المبالغة يؤدى إلى رفع سقف التوقعات لدى المواطن، ووصف كل شىء تفعله الحكومة بأنه «الأكبر» فى المحيط الإقليمى يدفع المواطن إلى طرح سؤالين مهمين.. السؤال الأول: منين؟!.. فالحكومة دائبة منذ شهور طويلة فى دعوة المواطن إلى التقشف، والتفاعل الإيجابى مع الأزمة الاقتصادية التى تمر بها البلاد، ومن لم يتقشف طوعاً من المواطنين، اضطرته الحكومة إلى التقشف كرهاً، نتيجة الارتفاع غير المسبوق فى أسعار السلع والخدمات.. فى ظل ذلك يصبح من الطبيعى جداً أن يسأل المواطن ما مصدر تمويل هذا المشروع «الأكبر»، أو تلك النقلة «الكبرى»؟!
السؤال الثانى يتعلق بالنتائج.. فمع المبالغات فى الحديث عن أكبر مشروعات للسمك والدواجن واللحوم والزراعة والعقارات وخلافه، يسأل المواطن: هل يعنى ذلك أن أسعار السلع أو الخدمات التى ينتجها هذا المشروع «الأكبر» ستنخفض؟!. وهو سؤال موضوعى وواقعى، فالمفترض أن تؤدى الوفرة إلى انخفاض السعر، فى حين تؤدى الندرة إلى الغلاء. أصغر مواطن فى مصر يعلم أن قانون العرض والطلب هو الذى يتحكم فى سعر السلع والخدمات، وبالتالى يتوقع أن يصب «الأكبر» فى صالحه، وذلك منطق الأشياء.. زرع التفاؤل فى نفوس المواطنين مطلوب.. لكن هناك فارقاً بين زرع الأمل وغرس الأوهام!.