عرفت أستاذنا الراحل السيد يسين منذ نهاية عقد السبعينات، حين كان مديراً لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وفى هذا الوقت كان المركز فى حالة حصار بسبب توجهات أغلب الباحثين فيه الناقدة للتحولات الكبرى التى أجراها الرئيس السادات فى علاقة مصر بالصراع العربى الإسرائيلى بعد زيارته الشهيرة للقدس نوفمبر 1977. كان الحديث السائد يتعلق بالحفاظ على استقلالية المركز فى مواجهة ضغوط عتيدة كانت تأتى من اتجاهات عديدة، سعت إلى أن يكون المركز مجرد مؤسسة بحثية تعيد إنتاج توجهات السلطة الحاكمة وتصنع لها رأياً عاماً مؤيداً. كانت الأفكار المطروحة بين الباحثين والخبراء آنذاك عديدة بداية من الاحتواء ومروراً بإبداء المرونة المطلوبة ولو جزئياً، ونهاية بالخروج إلى بلاد أخرى قد توفر حماية أكبر وحرية أوسع للمركز وباحثيه. لكن الكلمة النهائية للأستاذ سيد كانت الحَكم، فلا تفكير فى انتقال إلى أى مكان، البقاء فى مصر فريضة، استقلال المركز خط أحمر لا عبور له تحت أى ظرف، المسئولية تقتضى أن يتحمل الجميع ثمن حرية البحث العلمى واستقلالية الفكر.
وهكذا حُسم الأمر، لم يعد هناك مجال آخر سوى العمل والبحث فيما يهم الوطن ويتعلق بمستقبله، وبات الباحثون أمام مسئولية كبرى وتاريخية فى آن، وكان أول الأبحاث الجماعية حول تأثير التطبيع مع العدو التاريخى -إن حدث- على الدولة والمجتمع فى مصر، وفى المضمون كيف تتم مواجهته بعد كشف سوءاته ومضاره، بأسلوب علمى دون الإغراق فى التحليلات السياسية والأيديولوجية، وبمنهج تفكير نقدى مع ربط الأمور بالحقائق والمعلومات التى يمكن الحصول عليها.
منذ ذلك التاريخ، أصبحت العقيدة الرئيسية لمركز الدراسات هى الاستقلالية فى الفكر وفى البحث مع الالتزام الصارم بالمصالح العليا للوطن، وفى التطبيق أن يصنع الباحثون رؤيتهم للحياة بدون أى تدخل أو توجيه مباشر أو ضغط من أى جهة ما، والأصل فى ذلك أن ترقى حرية الباحث من خلال المعرفة والبحث الدائم عن المعلومة، والالتزام بالتفكير النقدى المُؤسس على الافتراضات العلمية المختلفة وصولاً إلى الاستنتاج الأقرب إلى الدقة والمتحرر من هوى النفس وغواية الأيديولوجية. وفى ضوء هذه التقاليد بات التفكير فى مستقبل الوطن بداية من مصر وامتداداً لكل الوطن العربى بمثابة فريضة، واستناداً إليها كان التفكير فى بلورة رؤية استراتيجية عربية يتم من خلالها رصد الواقع وتحليل مآلاته المختلفة، وهكذا وبرعاية مكثفة من السيد يسين وبعد حوارات متنوعة تم تدشين العمل فى «التقرير الاستراتيجى العربى» فى عام 1984، الذى ما زال يصدر سنوياً بلا انقطاع بنفس الروح ونفس الالتزام نحو مصر وعروبتها وديمقراطيتها، وذلك رغم تعدد الأجيال التى أسهمت فيه.
استقلال الفكر والتفكير مرتبط بالمعرفة والبحث عنها وعن خباياها. وفى ذلك كان السيد يسين نموذجاً للولع الدائم بالقراءة والبحث عن كل جديد وتنوع المعارف، وحين يصعب شىء كمفهوم أو عبارة لم يكن يخجل أن يبحث عن متخصص فى المجال لكى يعرف منه المزيد، وحين يرى أمراً جديداً كان يبحث عن أصوله مهما كانت الصعوبات. ومما لا أنساه له موقف يكشف قدر الشغف بالمعرفة والعلم رغم المكانة العلمية التى حققها. ففى منتصف الثمانينات لم تكن الاستعانة بأجهزة الكمبيوتر فى عمل مراكز الدراسات والبحوث سائدة كما هو الحال الآن. كان الأمر نادراً للغاية، وكذلك كانت الاستعانة بالشبكة الدولية للمعلومات غير معروفة إلا للذين أتيحت لهم فرصة السفر إلى الخارج وتحديداً الولايات المتحدة، ودرسوا فى جامعاتها وتعاملوا مع الشبكة الخاصة بالجامعات، وعرفوا القيمة الكبرى لها وفائدتها العظيمة للبحث والدراسة. وكانت الشبكة الدولية للمعلومات فى ذلك الوقت محدودة الانتشار عالمياً، وفى حدود نهاية 1987 تم ربط مصر بالشبكة ولكن فى نطاق ضيق للغاية ولمؤسسات رسمية محدودة وتحت رقابة أمنية صارمة. وحدث أن كلفنى الأستاذ «يسين» والصديق العزيز ضياء رشوان، مدير المركز الحالى، بأن نفكر فى برنامج لإدماج أجهزة الكمبيوتر فى عمل المركز وتدريب الباحثين بالتنسيق مع مركز الحاسبات الآلية فى مؤسسة الأهرام الذى كان يديره آنذاك الأستاذ على غنيم، ومعه نخبة من المهندسين الأكفاء فى هذا المجال. وبالفعل قمت والزميل ضياء رشوان بإنشاء وحدة للحاسبات الآلية فى مركز الدراسات، وبات علينا أن ندرب الباحثين، وتم وضع البرنامج وتضمن آنذاك التدريب على ما يعرف بأسلوب التشغيل «دوس»، وكان ذلك قبل ظهور برامج ويندوز بما فيها من أيقونات لكل منها مهمة ووظيفة محددة. كان برنامج «دوس» معقداً بعض الشىء، يتطلب حفظ العديد من الأوامر وكتابتها بدقة متناهية، وكان الأمر يزداد تعقيداً فى ظل شاشة تتسم بالسواد وفيها العديد من الرموز التى يجب حفظها عن ظهر قلب لغرض إتمام العمل المطلوب.
حين عرضت على الأستاذ «يسين» خطة التدريب وأسماء الباحثين، نظر لى باستنكار شديد وقال لى «وأين السيد يسين، أليس من حقه أن يتدرب على هذا الجهاز العجيب؟! ضع اسمى فوراً وحدد لى المواعيد». استغربت الأمر وقلت له «بس حضرتك المدير»، فرد سريعاً «علشان كده لازم أكون أول واحد يتعلم. مش معقول كل الباحثين يعرفوا يشغلوا الكمبيوتر وأنا أكون جاهل بينكم». وبالفعل شارك السيد يسين فى التدريب كأى باحث، وكان حريصاً على أن يقوم بالواجبات وأن يلتزم بالمواعيد، ثم صار بعد ذلك «حريفاً» -كما نقول- فى تشغيل الكمبيوتر وفى الغوص فى مواقع الإنترنت المختلفة، وحين يتعثر عليه شىء جديد كان يبحث عن أصله حتى يعرف خباياه.
كان بابه مفتوحاً دائماً لمن يريد أن يتحدث معه فى فكرة أو مضمون كتاب قرأه أو بحث يجريه أو رسالة علمية على وشك البدء فيها أو الانتهاء منها. كان من النادر على الذين تعاملوا مع السيد يسين كمدير لمركز الدراسات أو مستشار له، أن يدخلوا عليه فى مكتبه فى أى وقت كان ويجدوه بعيداً عن الكتب المفتوحة أو الأبحاث المفرودة أمامه يطلع عليها كباحث مجتهد وبتركيز عال والقلم فى يديه يخط به ملاحظة أو يضع هامشاً، وكنا نحن الأصغر سناً والأكثر حاجة فى التعلم نحسده عليه كلما نرى هذا الموقف. رحم الله الأستاذ السيد يسين وأسكنه واسع جناته، وأسبغ عليه المغفرة والرحمة.