حتى وقت قريب كنت أظن - وكل الظن إثم وليس بعضه فى هذه الحالة- أن مظاهر الفساد لا تتعدى صغار المسئولين فى بعض الجهات الحكومية الذين اعتادوا فتح أدراج مكاتبهم ليتلقوا فيها «رشاوى» تتراوح قيمتها ما بين 20 إلى 50 جنيهاً فى أفضل الحالات لإنهاء طلب لم يجد مقدمه سوى سداد قيمة «الشاى» حتى ينهى طلبه ويرحم نفسه من التردد على هذه الجهة، التى حولته إلى ما يشبه «مساحة زجاج السيارة» فى انتقاله من مكتب إلى مكتب!
وإلى زمن قريب كنت أعتقد أن «شبكة الفساد» لا تضم داخلها سوى بعض مسئولى المحليات دون أن تضم «كبارهم» إلا أن ما كشفت عنه جهود «رجال الرقابة الإدارية» أخيراً أكدت أن «تسونامى الفساد» أطاح بمقاعد وزراء وكبار مسئولين فى الدولة لم يتطرق إليهم أدنى شك.. وأن أمواجه لم تسلم منها وزارات وجهات عديدة ظلت مختفية عن أنظار الرقابة ظناً من جانب هؤلاء المسئولين أنهم فى مأمن منها دون أن يدركوا أن «صقور الرقابة» تتحين اللحظة المناسبة لـ«الانقضاض» عليهم متلبسين بالصوت والصورة!
ويبدو فى هذا المشهد أن الفاسدين من بين كبار مسئولى هذه الوزارات قد تعهدوا فيما بينهم وبدون تعاقد مكتوب على أن يكون هدفهم من ممارسة مهامهم يتلخص فى استغلال النفوذ والتربح وقبول الرشوة والإضرار العمدى بالأموال العامة التى هى فى حقيقتها أموال المواطنين!!
الغريب فى «مشهد الفساد» أن جميع من طالتهم أيدى الرقابة الإدارية كانوا قبل أيام وربما ساعات من لحظة إلقاء القبض عليهم يرددون شعارات بحتمية «مطاردة الفساد والفاسدين» وأنهم جميعاً لن يدخروا جهداً فى محاربة هذا الوباء، كما ولو كانوا قد التزموا نصاً بما يتضمنه «دليل الفاسد الذكى»..!
ما يلفت الانتباه أن قضايا الفساد فى الوزارات والمواقع الحساسة قد اعتادت أخيراً أن تختار أبطالها دائماً من كبار مسئوليها ولا تعترف بفساد مجرد موظف صغير يفتح مثلاً درج مكتبه انتظاراً لـ«الشاى» ويبدو أن «نجوم الفساد» أقروا وبدون تعهد مكتوب أن يختلفوا فى منهجهم، فأتاحوا للبعض منهم الاستيلاء على العملة الصعبة، بينما أسندوا مهمة الاستيلاء على المكون المحلى فى ميزانية رشوتهم «الجنيه المصرى» للفاسدين الأقل حظاً وشطارة!! وإذا كان الرأى العام قد اعتاد فى السابق على مشهد موظف فى وزارة أو رئيس حى أو مدينة تدفعه يد مخبر أو عسكرى إلى داخل سيارة الترحيلات أو إلى تخشيبة أى قسم للشرطة بعد أن جرى ضبطه، فإن تعديلات جوهرية قد أدخلت على هذا المشهد ليصبح «الوزير» ذاته هو «بطل الواقعة» وبدلاً من المخبرين ظهر فى المشهد ضباط أكفاء من الرقابة الإدارية.
وإذا كان البعض يعتقد أن الفساد قد استشرى بشدة خلال الفترة الماضية وأحكم قبضته على الكثيرين، فإن هذا الاعتقاد يجانبه الصواب، فليس جديداً انتشار الفساد بهذا الحجم بينما الجديد هو تنامى عمليات كشفه وضبطه، خاصة أننا على مدى أكثر من الثلاثين عاماً الماضية لم نعتد على أن يخضع أحد للمحاسبة أو يتعرض للمساءلة أو حتى مجرد الاستماع إلى أقواله، فوفقاً لما اعتدناه فلا أحد يحاسب من يخطئ أو يفسد، وبخاصة إذا كان من بين أصحاب النفوذ أو المحظوظين، فقد كان للفساد «رب» يحميه ويبسط حمايته عليه، فكانت أسباب إقالة الوزير أو استقالته بسبب فساده تعد من أسرار «قدس الأقداس» فلا أحد يعرف لماذا أقيل هذا الوزير من منصبه بل ولا حتى لماذا جرى اختياره أساساً للمنصب على الرغم من تقارير الرقابة التى كانت تعارض ذلك!!
الغريب أن قيمة «الرشوة» تباينت ما بين الملايين وما بين الآلاف أو حتى «وجبة عشاء وقميصين».. وحتى فروض الدين «المقدسة» لم تسلم من أن تكون محوراً لتلك «الرشاوى اللعينة»، مثلما اتضحت فى رشوة وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال الذى جرى ضبطه على الهواء أمام عشرات المئات من المواطنين فى ميدان التحرير بعد دقائق من مغادرته مقر مجلس الوزراء، إذ كانت رشوته عبارة عن «إفطار رمضان» له ولـ17 من أقاربه وأداء فريضة العمرة لهم أيضاً وبعض الملابس وبطاقة عضوية فى أحد النوادى!!
ويعد مدير عام التوريدات والمشتريات بمجلس الدولة «أوناسيس الفاسدين» حتى الآن، إذ عثرت الرقابة الإدارية على أموال تُقدر بأكثر من 150 مليون جنيه فى منزله، منها 24 مليون جنيه مصرى، و4 ملايين دولار، و2 مليون يورو، ومليون ريال سعودى، بالإضافة لمشغولات ذهبية وعقود عقارية، وإذا كان مدير المشتريات سدد حريته مقابل فساده فإن الأمين العام للمجلس وهو «قاض» قد سدد حياته فاتورة لفساده.
ولأن قضايا فساد الكبار فى هذه الوزارات تتوالى، ولأن نجوم الفساد من كبار المسئولين تتساقط دوماً فيبدو أنه سيصبح على وزير الداخلية إقامة سجون محمولة «موبايل» ليسهل تنقلها بين مواقع الفاسدين توفيراً للجهد والوقت الذى يجرى إضاعته فى زحام القاهرة، خاصة أن هذه السجون ستكون «المحل المختار» لكل فاسد أو مخادع، بفضل قوة «مبيدات الرقابة» التى ستقضى بالتأكيد على «ذباب الفساد».