.. وبعد أن قدم بريماكوف نفسه بما يكفى، وبعد أن أمتعنا بفيض من معلومات لا ينضب، كان علينا أن نقتحم متن الكتاب. لكن الأمر صعب للغاية ففى 505 صفحات يجد القارئ كل سطر وأحياناً كل كلمة تحمل معلومة أو سراً أو تحليلاً ويكتشف أنه بحاجة إلى مزيد، ولا حيلة أمامى إلا أن أتجول سريعاً عبر الصفحات لأختار بعضاً قليلاً مما تذخر به وأحذر القارئ أننى لم أختر الأهم، وإنما ما اعتقدت أنا أنه يفسر بعض ما كان غامضاً.. سأورد اقتباسات ربما تكون غير مترابطة لكنها تلقى بعضاً من الضوء على مساحات كانت ولم تزل غامضة، ونقرأ: أكد السادات فى مقابلة تمت إذاعتها عبر التليفزيون الأمريكى يوم 7-8-1971 أنه جاهز تماماً للتسوية السلمية وأنه لا يعتمد على أى ضمانات سوفيتية «فسياستنا نصنعها نحن بأنفسنا». وفى 4 فبراير 1971 اقترح السادات فتح قناة السويس ووقف سياسة العداء، مقابل بعض الانسحاب الإسرائيلى إلى الشرق. وقررت أمريكا تحسس موقف السادات ووصل روجرز للقاهرة فى مايو 1971. وعلى غير ما توقع نيكسون وكيسنجر فتح السادات الموضوع شديد الحساسية فسأله «لمَ لا تسألوننى عن علاقتى بالسوفيت ووجودهم فى مصر». وكان كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية قد سمع من السادات نفسه قوله «مع أول مرحلة لانسحاب إسرائيل شرقاً سيغادر السوفيت مصر».. وفى ذات يوم 4 فبراير وجه السادات رسالة مع شخصية معروفة جيداً فى موسكو هو شعراوى جمعة وهو اختيار ماكر يوحى بأنه لم يزل يتمسك بسياسة ناصر وقد قدم السادات شعراوى باعتباره صديقاً موثوقاً به تماماً. وبعد ثلاثة أشهر كان شعراوى فى السجن.. وفى أثناء انعقاد المؤتمر السادس والعشرين للحزب السوفيتى أى قبل اعتقال رفاق ناصر وهم «على صبرى، سامى شرف، شعراوى، الفريق فوزى»، وجه السادات رسالة إلى موسكو يقترح فيها توقيع اتفاق تعاون بين البلدين لتدعيم العلاقات وتوثيقها. وكان ذلك تغطية على مناوراته مع أمريكا. وللأسف الشديد صدقه السوفيت [صـ162].. وعن حرب أكتوبر قال بريماكوف إن قليلين فى أمريكا كانوا يصدقون أن البلاد العربية ستبدأ حرباً مع إسرائيل بعد الهزيمة الساحقة 1967. وفى حوار له مع خبراء أمريكيين كبار رفضوا تماماً فكرة أن يتحرك الجيش ليهدم خط بارليف. ويمضى ليؤكد أن السادات لم يُخطر السوفيت بساعة بدء العمليات. ويبدو أن السادات كان يخشى أن يمنع الاتحاد السوفيتى العملية العسكرية خوفاً من انجرار السادات إلى أزمة حادة. ويدهش بريماكوف من أن حافظ الأسد هو أيضاً لم يبلغ السوفييت بالموعد.. وكانت المخابرات السوفيتية قد أبلغت عن تحركات لوحدات عسكرية مصرية وسورية فتقرر إجلاء أسر الدبلوماسيين [النساء والأطفال] وبعد الحرب انقطع الاتصال مع السوفييت حتى نوفمبر 1975. ويقول بريماكوف: أبلغنى لطفى الخولى عن رغبة السادات فى مقابلة معه سراً.. وتم اللقاء فى برج العرب وذهبت أنا وبيلابيف فى 25 نوفمبر وبدأ يتحدث عن أنه رب العائلة المصرية، ووجه لوماً للسوفيت، ولم نبتلع الاتهامات فقال عبارة مهمة أنه أيام عبدالناصر كان بروحه وقلبه مع السوفيت. وتحدث طويلاً عن الحرب وعن أنه كان قد أعد خطة لقطع الممر الموصل للثغرة وتدمير دبابات شارون وأصبحنا جاهزين وفجأة اتصل بى كيسنجر قائلاً «سيادة الرئيس إذا انتصر السلاح السوفيتى على السلاح الأمريكى فلن أملك القدرة لمقاومة البنتاجون، واتفاقنا معكم سيتعرض للخطر». وفى صوت واحد سألنا أنا وبيلابيف: «أى اتفاق؟» ولكن السادات تحدث عن موضوع آخر [صـ173].. ونقفز إلى علاقة سوريا بإيران، يقول بريماكوف: فى لقاءاتى المتعددة مع حافظ الأسد قال لى أكثر من مرة إن سوريا لا تستطيع وحدها أن تصمد فى مواجهة إسرائيل خاصة أن مصر والأردن خرجتا من الوضع النشط فى صراعات المنطقة ومن هنا كانت العلاقة مع إيران ولم تزل حتى الآن ضرورية.. ونأتى إلى الربيع العربى.. اتخذت أمريكا مواقف مختلفة فمثلاً من اليمن كانت مظاهرات صاخبة تطالب بالديمقراطية وسقط مئات من القتلى والجرحى ورغم ذلك لم تقف أمريكا ضد «صالح» فقد كان يتعاون مع أمريكا ضد تنظيم القاعدة الذى يحارب النفوذ الإيرانى فى اليمن. ولكن فى بلاد أخرى كمصر وتونس وليبيا كان الأمر مختلفاً. وينقل بريماكوف عن جريدة «وول استريت جورنال»: مع الربيع العربى ازداد عدد العاملين فى المخابرات الأمريكية ممن يجيدون اللغة العربية ثلاثة أضعاف وفى وزارة الخارجية الأمريكية أصبح عددهم 500.
ويقول «استقرت الأمور الأمريكية على تطوير العلاقات مع الإخوان المسلمين وصرحت وزيرة الخارجية الأمريكية بذلك فى مؤتمر صحفى ببودابست فى 30 يونيو 2011 وعندما أجريت الانتخابات عام 2012 حصل الحزب الإخوانى (الحرية والعدالة) على 40% من الأصوات.. لكن قادة حزب النهضة التونسى كانوا أكثر ذكاء فوعدوا بإقامة دولة علمانية وديمقراطية. وأسرع سعد الكتاتنى فى مصر معلناً حزبنا ليس دينياً ولكنه مدنى ويسعى لإقامة دولة ديمقراطية حديثة لكن سرعان ما انقلب الإخوان على هذا الرأى عندما اندفعوا بلا احتراز لالتهام كل السلطة.. وحصل حزب النور السلفى على قرابة ربع مقاعد البرلمان وكان يطرح تطبيق الشريعة عملياً ومباشرة وكان السلفيون خلف الاعتداءات على الأقباط وإحراق كنائسهم».. وفيما يتعلق بموقف الأمريكان من مبارك قال بريماكوف: عندما قابلت مادلين أولبرايت كانت تعرب عن الذهول من الخطر المحيط بأنظمة صديقة. وقد أكد لى بعض العالمين بالأمور أن أوباما كان على اتصال دائم ومستمر مع مبارك وكذلك بالجنرال عمر سليمان وراهنت أمريكا فى البداية على عمر سليمان كما راهنت على أن الجيش غير مُسيس ولا يريد إقحام نفسه فى السياسة. وساد الارتباك موقف موسكو ففى اجتماع لوزيرة الخارجية الأمريكية مع سفراء أمريكا حول العالم قالت «لقد أثبتت الأحداث الأخيرة فى الشرق الأوسط أن البساط يمكن أن يُسحب من تحت أقدامنا وهذه المنطقة مهمة لكى نحافظ على قيادتنا للعالم»، وهاجمت دبلوماسييها فى المنطقة لأنهم انغمسوا فى كتابة التقارير دون الخروج خارج جدران السفارات [صـ435]. وفى إطار ضعف مبارك وعدم قدرة أمريكا على مواكبة الأحداث، خاصة أن الحراك الثورى لم يحطم مؤسسات الدولة والحساب الأمريكى الخاطئ بأن الجيش غير مسيس، قررت أمريكا دعم الإخوان.
ومهما أطلت فما زال هناك الكثير جداً.. ويبقى أن أشكر الصديق د.نبيل رشوان على جهده وترجمته المفعمة بالجدية.