حولت ثورة الاتصالات بثقلها والتقنية بإصداراتها العالم الإنسانى، الذى اعتاد على هاتف المنزل وخطابات ساعى البريد، ليصبح الجميع على موعد مع عالم رقمى ومكاشفة حياتية تواصلية على مدار الساعة. فإذا حللت حضوراً فى حسابات التواصل الاجتماعى أو فتحت الواتساب أو غيره، فأنت للجميع معلوم، وإذا انقطعت وانشغلت فأنت مرصود. وبالتالى تكون قد قبلت أن تكون جزءاً من هذه المنظومة، ووقعت عقداً رقمياً بأن تستخدم أدواته وقنواته وتقنياته وفق ما يناسب أعمالك وحياتك وأوقاتك، والتزمت بشروط التواصل الإيجابى الفعال.
وأمام هذا التحول الخطير، وقع الكثيرون فى مجتمعاتنا فى مأزق الوجود الغيابى والغياب الحضورى. إن من يطرق وسائل التواصل لديك سواءً كانت هاتفية أو بريدية، كمن يطرق باب بيتك أو مكتبك، له حقوق ومقتضيات الاحترام المتبادل للإنسان فى علاقاته الاجتماعية والمهنية. وتجاهل الرد على الآخر، كمن يستقبلك على عتبة بيته بوجه متجهم، أو كمن يخبرك أنه فى اجتماع طارئ وممتد!
لقد غدا تجاهل الرد على الآخر أو الرد الانتقائى لصديق بعينه أو لرئيس فى العمل أو شخصية مهمة وإغفال ما دونهم آفة التواصل فى هذا العصر. تندهش حين ترسل لأحدهم رسالة على الواتساب أو رسالة نصية عبر هاتفه بعد اتفاق مسبق بالتواصل فى أمر مشترك، فلا يأتيك الرد، علماً أنه يمكنك وببساطة معرفة مصير تلك الرسائل وأنها قُرِأت. ثم تتابع الأمر ملتمساً العذر، وتتواصل من جديد فى أوقات وأيام متفاوتة مذكراً ومتابعاً ومنوهاً بما أرسلت من قبل تقديراً لانشغال الآخر وبحثاً له عن سبب لعدم الرد، فيكون الصمت والتجاهل مجدداً هو جوابك الوحيد. آنذاك تجبرك قيمك الإنسانية والأخلاقية والمهنية أن تبحث لهذا «المتجاهل» عن الأعذار الممكنة، وتستحضر الأسباب جميعها، فلا تجد إجابة شافية لهذا التجاهل اللامبرر؛ لتصل فى النهاية إلى قناعة أنك لم ترتكب أى خطأ، ولم تخرج عن أدبيات التواصل المفعم بالتقدير والاحترام شكلاً وموضوعاً؛ وتدرك يقيناً أننا نعيش ذاكرة السراب، وأننا أحياناً نتحدث ونجتمع ونتواصل لملء فراغات الزمن فقط.
وتعيش بين مشاهد عبثية، فالذى تجاهلك بالأمس، قد تفاجأ برسائله الصباحية والمسائية حاضرة ومنهمرة تحمل أجمل العبارات، وألطف الكلمات، وأرق الدعوات، بل وأصدق الحكم والأقوال المأثورة، وكأن يديه وعينيه بُرمجتا على الإرسال دون الاستقبال، وكأنه حوار الطرشان. ويحزنك الهدر فى الوقت، ويقهرك تشتت الأفكار وتبخرها، وضياع الفرص واندثارها، فتحل الإحباطات محل الرضا الذاتى والتواصل المجتمعى الراقى.
والسؤال: هل نحن حقاً نفتقد مهارات التواصل الفعال مع الآخرين فى زمن التواصل المتاح على مدار الساعة؟ هل التواصل فى زمن الاتصالات تسبب فى انهيار قيم التواصل على المستوى الشخصى والمجتمعى والمهنى والمؤسسى؟
نحن نحتاج وبشدة إلى إعادة النظر فى نهج التواصل بيننا، نحتاج فهم وإدراك ما وراء التواصل من التزامات ووعود وميثاق، وقدرة على تحديد أولويات ومستويات التواصل وطبيعتها وأهميتها ثم الوفاء بها، خاصة حين تكون بين طرفين تحدثا وتشاركا واتفقا.
إن تنامى هذه الظاهرة السلبية فى افتقاد الحد الأدنى من أدبيات التواصل، خاصة الهاتفى بكل قنواته والبريد الإلكترونى، تترجم سلوكاً غير محمود مع الآخر عنوانه: «أنا حاضر لكننى غائب، أو وصلت رسالتك ولكن بسبب التعويم وسعر العملة، تغيرت الأولويات، وسأضعك فى قائمة من أتجاهلهم تواصلياً حتى أرد عليك يوماً ما وفقاً لأسعار التداول والتواصل المستقبلية! وهكذا يذهب وقت وجهد وحيوية المجتمعات سراباً بلا أى عوائد، لأن فقه احترام الآخر فى التواصل الإيجابى التبادلى الفعال خرج ولم يعد.