فى سجلات هوليود، ثمة أكثر من 200 فيلم يتناول قصص خدمة النساء فى الجيوش وأجهزة الاستخبارات، وهى أفلام تتسم فى معظمها بأنها تعكس خيال مؤلفيها؛ لكن فيلم «الحرب المخفية» التسجيلى، الذى أخرجه «كيربى ديك»، فى العام 2012، لا صلة له بالخيال، لأنه يقدم تحقيقاً استقصائياً، مدعماً بالوثائق واللقاءات الحية والإحصاءات، التى من خلالها تم الكشف عن حقيقة مذهلة، تفضح ما بات يُعرف فى تلك المؤسسة المعتبرة بأنه «وباء الاغتصاب».
لقد أجرى «ديك» مقابلات مع مجندات وضابطات، تم ذكر أسماء بعضهن، وأماكن خدمتهن، وهى المقابلات التى كشفت عن عمليات اغتصاب جماعى مارسها ضباط وقادة وجنود ضد زميلات ومرؤوسات لهم فى الجيش.
يشير الفيلم إلى خلاصة مريرة وكاشفة، حين يوضح أن 19 ألف رجل وامرأة تعرضوا للاعتداء الجنسى من قبل رفاقهم أو قادتهم خلال خدمتهم، فى العام 2010.
ويقول إن 20% من الإناث اللاتى يخدمن فى القوات المسلحة الأمريكية العاملة داخل حدود البلاد (نحو نصف المليون فرد) يتعرضن لاعتداءات جنسية، وإن 8% فقط من تلك الحالات وصلت إلى المحاكم فى العام 2009، و2% فقط منها صدرت بشأنها قرارات قضائية.
توضح تلك الأرقام استفحال ظاهرة استهداف النساء أثناء الخدمة العسكرية فى الجيش الأمريكى؛ وهو الأمر الذى تم التعبير عنه بمصطلح «مليتارى سيكشوال تروما» (إم إس تى)، الذى يستخدمه الباحثون والقادة من أجل تخفيف وقع استخدام المصطلح الأنسب، والذى يجب أن يتمحور حول كلمتى «الاغتصاب» و«الفضائح الجنسية».
لقد سعى بعض القادة والمحللين إلى التقليل من شأن مثل تلك الشكاوى والجرائم، معتبرين أنها يمكن أن تقع فى أى مجتمع إنسانى، ومستندين إلى أن «علم الاجتماع العسكرى»، الذى يبحث فى العلاقات الاجتماعية القائمة بين العسكريين وبسبب الخدمة العسكرية، يشير إلى تشابه ملموس بين الجرائم السائدة فى أى مجتمع والجرائم التى تقع داخل معسكرات الجيش.
لكن الوقائع جاءت لتعمق الإحساس بخطورة تلك المشكلة، ليس فقط على نمط التفاعلات الاجتماعية السائدة فى الجيش الأمريكى، ولكن أيضاً على صورة الجيش وقدراته القتالية.
فى 12 سبتمبر 2016، رصدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تعليقاً من مجهول، على منصة إلكترونية تُدعى «آنون آى بى»، يقول ما يلى: «هل هناك أى صور لمجندات من قاعدة (رايت باترسون) الجوية، بأوهايو؟. سأبدأ أنا ببث بعض الصور، وأنتظر منكم المزيد».
وجدت «البنتاجون» لاحقاً أن هذا المعلق المجهول نشر بالفعل صوراً لفتيات، تم التحقق من أنهن مجندات بالجيش، قبل أن تأتيه صور أخرى من معلقين آخرين.
لكن ما بدا محدود الأثر وقليل الضجة آنذاك، سرعان ما خرج إلى العلن لاحقاً بصورة مزعجة؛ إذ نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) تقريراً فى 10 مارس 2017، يكشف عن أن «واقعة تبادل صور لمجندات عاريات فى الجيش الأمريكى على (الإنترنت) تطال جميع أفرع الجيش».
وقالت «بى بى سى» إن «البنتاجون» بدأت بالتحقيق فى الأمر بالفعل فى مطلع شهر مارس 2017، وأعلن مسئول فى الوزارة أن ما حدث «يتنافى تماماً مع قيم الجيش»، بينما أكد قائد سلاح «المارينز» (مشاة البحرية) الجنرال روبرت نيلر أن هذه الفضيحة تمثل «مصدر إحراج للجيش»، وأن هذا السلوك «لا يمكن أن يصدر عن محاربين حقيقيين».
لا تقع هذه الفضائح والممارسات المنفلتة فى الجيش الأمريكى فقط، لكن جيوشاً أخرى تشهد ممارسات مشابهة، ولعل من أهمها الجيش الإسرائيلى. ظلت إسرائيل على رأس الدول التى يشار إليها بالبنان كلما جاء الحديث عن خدمة النساء فى الجيوش، لأنها كانت سبّاقة فى هذا المجال بكل تأكيد؛ إذ انخرطت المرأة فى الأنشطة العسكرية للدولة عشية إعلانها، عبر الاشتراك فى العصابات المسلحة مثل «الهاجاناه»، و«الايتسيل»، و«الليحى».
ومنذ إعلان الدولة لم يتوقف الحديث عن الدور الذى تلعبه الفتيات فى الخدمة الإلزامية بالجيش، خصوصاً أن نسبتهن سجلت 32% من إجمالى القوات العاملة، وبموازاة هذا الحديث جرى النقاش حول التداعيات الأخلاقية والقيميّة لتلك المشاركة، خصوصاً مع توالى ظهور الفضائح الجنسية والممارسات الحادة.
فى يوليو من العام 2016، وجهت النيابة العسكرية الإسرائيلية اتهاماً للعميد «أوفك بوخاريس» باغتصاب وهتك عرض 16 مجندة وضابطة تحت إمرته، فى فضيحة هزت أرجاء الجيش. وقبل ذلك بعام تقريباً، وتحديداً فى أبريل 2015، كانت هناك فضيحة أخرى تتعلق بأربعة جنود قاموا باغتصاب مجندة زميلة لهم، كما نشرت صحيفة «هآرتس».
تأتى هذه الفضائح التى شهدها الجيش الإسرائيلى فى سياق معلومات متواترة عن جرائم اغتصاب وهتك عرض وتحرش جنسى متعددة تقع بحق مجندات، وقد نُشرت نتائج استطلاع رأى فى مارس 2011، أفاد بأن 19% من المجندات تعرضن لاعتداءات جنسية أثناء الخدمة.
تتحدث المراجع التاريخية عن أدوار مثبتة للمرأة فى العمل العسكرى منذ أكثر من أربعة آلاف عام، وتخدم المرأة راهناً فى أكثر من 40% من جيوش العالم، وتلعب أدواراً رئيسة فى بعض الجيوش الكبرى؛ مثل الجيش الروسى الذى تخدم فيه نحو 90 ألف سيدة، والجيش الأمريكى الذى تخدم فيه نحو 230 ألف امرأة، كما تسمح بعض الجيوش للمرأة بالمشاركة فى الأعمال القتالية على خطوط الجبهة الأمامية؛ مثل كندا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا، وإسرائيل.
العالم العربى ليس بعيداً بدوره عن الجدل الدائر عالمياً بخصوص خدمة النساء العسكرية، وفى السنوات الأخيرة ثارت مطالبات فى أكثر من بلد عربى بضرورة فتح الباب أمام تجنيد النساء وتوسيع أدوارهن فى الجيوش؛ وقد جرى النقاش فى البرلمان الكويتى هذا الشهر حول تجنيد الفتيات، كما طالبت حركات نسوية مصرية بانخراط الفتيات فى حياة الجندية على مدى الشهور الفائتة، وطرح وزير الدفاع التونسى فرحات الحرشانى مسألة مشاركة النساء فى الخدمة العسكرية فى بلاده للنقاش فى 2016. ثمة الكثير من الأسباب التى تعزز خيار تجنيد النساء فى أى مجتمع من المجتمعات؛ ومن تلك الأسباب تقوية اللحمة الوطنية، وبناء الالتزام والولاء، وتعزيز المشاركة المجتمعية فى حماية الدولة، وسد العجز الذى قد يحدث نتيجة قلة الموارد البشرية الواجب توافرها لأغراض الدفاع.
وثمة الكثير من المحاذير التى يجب وضعها فى الاعتبار أيضاً فى هذا الصدد؛ مثل عدم الكفاية البدنية، وعدم الملاءمة النفسية، والأضرار التى يمكن أن تصيب الروح المعنوية بسبب بعض المشكلات التى قد تتعرض لها المجندات أثناء العمليات.
وبشكل عام يبدو أن الخيار الذى يفتح الباب لالتحاق الفتيات بالخدمة اختيارياً، وإلحاقهن بالعمل فى قطاعات مكتبية وإدارية وطبية وتعليمية، بعيداً عن تشكيلات القتال والخطوط الأمامية، خيار جيد.
كما يجب الحرص على أن يلعب النسق القيمى، الذى يحكم المجتمع بشكل عام، دوراً رئيسياً فى تأطير العلاقات الاجتماعية التى تنشأ فى مجتمعات الجنود.