١
لا أعتقد أنها فرصة قد تسنح للكثيرين.. بل إنها قد لا تسنح لى مرة أخرى طوال حياتى.. أن أوجد فى موقع لحادث إرهابى بعد حدوثه بفترة قصيرة كما حدث معى هذه المرة.. فقد رتب لى القدر أن أمر على نفس الطريق الذى شهد حادث لندن الإرهابى بعد أقل من يوم على وقوع العملية.. الأمر لا يتعلق بمشاهدة آثار الدمار الذى سببته السيارة المستخدمة فى سور مبنى البرلمان البريطانى العتيق فحسب.. ولا التأمل فى وجوه المارة من سكان لندن أنفسهم.. الذين ينتابهم شعور لم يألفوه ربما منذ الحرب العالمية الثانية.. الأمر أعمق من ذلك بكثير.. إنه ذلك الشعور البغيض بأن المكان قد شهد أرواحاً قد أزهقت منذ ساعات قليلة.. الشعور بأنك تشم رائحة الموت فى المكان الذى ملأه أهل العاصمة بالورود تأبيناً لقتلاهم.. إنها تجربة التقمص النفسية الشهيرة.. حتى إنك قد تتخيل مشهد الدهس فى مخيلتك.. بينما تجول عيناك بحثاً عن بقايا الدماء التى سالت لتلوث الطريق الأشهر فى العاصمة البريطانية المسالمة! لا أعتقد أنها تجربة محببة للبعض.. ولكننى أعتقد أننى محظوظ.. فهى لن تتكرر كثيراً!
٢
لم يكن الحادث يحمل جديداً فى طريقة تنفيذه.. إنه نفس المعتوه الذى ظن فى لحظة تغييب عقلى كاملة.. أنه يتقرب إلى الله بإزهاق تلك الأرواح التى لم تقترف إثماً يستدعى قتلها بعشوائية مرعبة! لا أفهم حتى الآن كيف يمكن السيطرة على عقل أوروبى متعلم بهذا الشكل.. الأمر أقرب إلى عمليات غسيل العقول التى يجرون تجاربهم عليها فى معامل القوى فوق الطبيعية.. إنه نموذج مكرر لكل الانتحاريين الذين يقومون بعمليات من هذا النوع.. التى لم يكن حادث الكاتدرائية فى مصر أولها.. ولن يصبح حادث لندن آخرها! لا أعتقد أن ذلك الأيرلندى فكر مرتين قبل أن يقرر أن يقوم بالعملية.. لقد رأى أن يقدم دماء الأبرياء قرباناً إلى ربه.. وقد فعل!
٣
التغيير النوعى هذه المرة كان فى مسرح الحادث نفسه.. فعاصمة الإمبراطورية البريطانية لم تكن مكاناً معتاداً لتلك العمليات من قبل.. إنه الأمر الذى أصاب العالم كله بصدمة.. والذى دفع البريطانيين أنفسهم إلى التفكير مرة أخرى فى نظرتهم للأمور فى المنطقة الساخنة من العالم.. لقد ذاق الإنجليز-ربما لأول مرة- ما يعانى منه العالم كله منذ فترة ليست بالقصيرة.. وما حذرهم منه الرئيس المصرى منذ عامين تقريباً.. ولكنهم لم يستمعوا باهتمام وقتها! إنه الإنذار الذى يدق أبوابهم بقوة.. والذى يهتف بصوت تحذيرى فى ذهن الناخب الإنجليزى بأنهم ليسوا بمعزل عما يحدث فى مناطق أخرى بكل تأكيد!!
٤
تحاول الحكومة البريطانية التماسك ظاهرياً أمام الحدث.. فتخرج رئيسة الوزراء البريطانية سريعاً لتؤكد للشعب الإنجليزى أنه لا إجراءات استثنائية سيتم اتخاذها بسبب الحادث.. وتهتف على شاشات التلفاز فى ثقة.. أن بريطانيا هى أعرق ديمقراطية فى العالم.. وستظل كذلك.. وتتبع خطابها بأن تقرر فتح المنطقة -مسرح الحادث- بعد أقل من يوم على حدوثه للجمهور والسياح.. تعرف الحكومة البريطانية جيداً أنها لا تعنى ما تقول.. ويدرك رجل الشارع أن الحادث سيفضى إلى مناقشات أكثر جدية بشأن قوانين اعتبار العديد من الكيانات اليمينية كيانات إرهابية فى بريطانيا.. تلك القوانين المعلقة منذ فترة ليست بالقصيرة.. بالإضافة إلى جذب الانتباه نحو ملف «العائدون من داعش».. الذى سيطفو على السطح بقوة فى الأيام المقبلة! الوجود الأمنى المكثف -وغير المعتاد- للشرطة يشى بما أتوقعه.. وعمليات التوقيف المستمرة التى يعلن عنها التلفاز تؤكد الأمر يوماً بعد يوم.. تعرف رئيسة الوزراء جيداً أنها لن تتمكن من السيطرة على مطالبات البرلمان بتقنين الأوضاع داخل البلاد من جديد.. كما تعرف أن سياستها الخارجية سيعاد النظر فيها لترضى الناخب البريطانى الغاضب على قتلاه.
٥
رسائل من الكراهية خرجت من أنحاء بريطانيا ضد الإسلام والمسلمين كالمعتاد.. بينما تعلو بعض الأصوات العاقلة بالتوحد ونبذ التطرف بكل أشكاله من داخل المجتمع دون النظر للدين أو العرق.. تحاول الحكومة السيطرة على «الإسلاموفوبيا» المتوقعة.. فى ظل وجود نسبة لا بأس بها من المسلمين فى إنجلترا.. وفى ظل وجود كيانات إسلامية كثيرة معترف بها فى لندن! العديد من الإجراءات الإعلامية يتم اتخاذها.. كحوارات مع شيوخ مسلمين على شاشات التلفاز.. ومقال مطول لـ«صديق خان».. عمدة لندن «المسلم» فى أكبر صحيفة لندنية.. ولكن يبدو أن الأمر سيستغرق وقتاً ليس بالقصير للسيطرة على الأمر! لا يمكن التكهن بما سيحدث فى الأيام المقبلة.. ولكن المؤكد أن بريطانيا بعد الحادث ستختلف عما قبله.. وأن المقبل لن يكون فى صالح المراهنين على موقفها المتظاهر بالحياد دائماً! حادث لندن سيكون أول الخيط الذى سيحرك خيوط الأحداث نحو سياسات بريطانية جديدة.. أهمها من وجهة نظرى أنها لن تعود جنة للمنبوذين مرة أخرى.. فدقات «بيج بن» الحزينة على القتلى ستظل شاهدة على الثمن الذى دفعته العاصمة البريطانية.. بسبب مواقفها السابقة!