الشيخ الفاضل «الحبيب الجفرى» يُعد فى المقام الأول مربياً جيداً، ومهمة التربية أشمل وأقوى وأصعب وأعمق من مهمة الداعية، يمكنك أن تُعجب بكلام الداعية ولكنك تظل فى نفس المربع الخطأ الذى تقبع فيه، أما المربى فيقرأ نفسك جيداً ويأخذك بالهوينا والتدرج والرفق والأناة حتى يوصلك إلى الله، لا يخاطب مشاعرك فقط أو يثير حماستك ولكنه يأخذ بمجامع عقلك ونفسك وروحك وقلبك ليسوقها جميعاً إلى الله برفق ورحمة وحزم وتدرج.
هناك فرق كبير بين الداعية والمدرس من جهة وبين المربى من جهة، فالدعاة والمدرسون كُثر، أما المربى فهو عملة نادرة.
الداعية والمدرس يبثك علماً قد تعمل به أو لا تعمل، قد تسمعه وتمصمص شفاهك ثم تمضى، قد تتحمس له قليلاً ثم تعود لسيرتك الأولى، أما المربى فهو يزرع حالاً، أى إنه يحوّل العلم فى عقلك إلى حال فى قلبك وجوارحك ومشاعرك، يمكن للواحد منا أن يكتب أو يقرأ أو يسمع كثيراً عن التوكل على الله ولكنه قد لا يحقق ذرة من معانيه، ويمكنه أن يسمع عن الشكر أو الصبر أو الزهد دون أن تتحقق معانيها فى نفسه وقلبه وجوارحه. لقد خلصت من تجربة حياتى إلى أن التربية أصعب من التعليم والوعظ، وأن خلق الأحوال فى القلوب والنفوس صعب وعسير، وأن زرع الحال فيهما يحتاج إلى تجربة إيمانية، فالشكر يحتاج لتجربة، لو قلت لأحد الناس «اشكر الله على أن لك كبداً أو كلى سليمة» لسخر من قولك، ولكن لو قلت ذلك لمريض الكبد أو الكلى الذى شُفى من مرضه لظل شاكراً حامداً.
لو قلت لأحدهم «اشكر الله على أنك تنام على السرير آمناً فى بيتك» لسخر من عقلك، ولكنك لو قلت ذلك للعراقى أو السورى أو اليمنى المشرد أو لرجل سُجن من قبل لأدرك عظمة هذه النعمة وظل يلهج لسانه وقلبه بشكر الله.
يُصنَّف كتاب الحبيب الجفرى «الإنسانية قبل التدين» بأنه كتاب تربوى واقعى وعملى يمس حياة الناس مباشرة ويتفاعل مع قضاياهم الحية بأسلوب سلس وبسيط ينبع أساساً من القلب، وقد بدأ كتابه بمقدمة تربوية رائعة، حيث قال وكأنه يحدث نفسه:
«ذهب إلى طبيب الأسنان بعد أن افترس السوس ضرسه فشعر بألم فظيع، تنبّه وقتها فقط أن للإهمال ثمناً ومغرماً، هاله ما أراه الطبيب لمنظر ضرسه البشع على شاشة العرض، تذكّر أن الله سخّر هذا الضرس لخدمته 40 عاماً دون شكوى أو اعتراض أو تردد، فأهمل نظافته ورعايته حتى تلف وتحول إلى مصدر ألم وإزعاج. سرح الشيخ بعيداً متأملاً فقال: هكذا نفوسنا تجتهد فى خدمة أهدافنا السامية سنوات طويلة دون كلل أو ملل، ولكن إهمالنا لتزكيتها وتطهيرها يجعلها تالفة بشعة كما بدا الضرس فى الصورة، بل قد تلحق النفوس المهملة الضرر والأذى بمن كانت تخدمه بالأمس، تماماً كما فعل الضرس مع صاحبه بعد أن نخره السوس. سأل الشيخ نفسه: هل وصلت نفسك إلى هذا المستوى من التلف؟ وبهذا القدر من البشاعة؟ ولم لا وقد أكثرت من الاستمتاع بمضغ (حلويات) مدح المتابعين، وأطلت التلذذ بالتهام (سكر) ثناء المحبين وتصفيق المستمعين، كما أهملت تنظيفها بـ(سواك) الانكسار والمراجعة حتى تراكمت عليها الأوساخ من مخلفات الشهرة والظهور، ولم تعقمها بـ(معجون) التفكر فى عظيم ستر الله؟!».
والكتاب فيه إطلالات رائعة على قضايا كثيرة متشابكة، تنسجم فى منهج واحد، هو الإصلاح وليس الثورة، والتربية وليس الهياج، والأدب وليس السباب، والحب وليس الكراهية، وتلاقى الأرواح لا صراع السياسة، والتعايش لا التقاتل، والتفريق بين الاجتهاد السياسى ومخاطبة الناس باسم الله، وحوار الأجيال لا تقاطعها وتدابرها.
وقد تعرّض الكتاب لكل «الازدواجيات المقيتة» التى تفشّت فى كل الفئات فيقول: تجد ليبرالياً يتكلم عن حرية التعبير، ثم يبادر إلى المطالبة بسن قوانين «تمنع» الآخر من الحياة السياسية، وتجد الإسلامى الحركى ينكر على العلماء تعصبهم لمذاهبهم ويتهمهم بتقديس أئمتهم، ثم تجده ينتفض عند أول انتقاد لرمز من رموز الحركة الإسلامية وينقضّ على المنتقد بالاتهامات ابتداء من الجهل ومروراً بمداهنة السلطان وانتهاءً بخيانة الدين! وتجد الاشتراكى الثورى ينكر على النظام مصادرته لإرادة الشعب، ثم تجده يتهم الشعب بالتخلف والجهل لمجرد أن يكون اختياره مخالفاً لتوجهه!
ثم يوضح الشيخ «الجفرى» البدايات الحقيقية للمراجعة والتصحيح وأنها تبدأ من شجاعة نقد الذات: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»، وبيّن الفرق بين جلد الذات ونقد الذات، فالأول هروب من تغيير الواقع والثانى إصرار على البداية الصحيحة لتغييره.
وأنكر كل أنواع القتل بدءاً من «قتل الحلم وإزهاق الأمل وسفك الأفكار، أو قتل الجسد وإزهاق النفس وسفك الدماء، ففى كل منها الخسران المبين».
وذكر رأيه فى الماركسية قائلاً: «ماركس مفكر ولينين نصاب وستالين جزار».
إننى أدعوكم لقراءة هذا الكتاب العميق الذين يدعو إلى الأخلاق ثم الأخلاق ثم الأخلاق.
تحياتى للحبيب «الجفرى» الذى يتمتع بحظ كبير من اسمه، فهو محب للناس ومحبوب منهم أيضاً.