«تعقد القمة العربية فى ظل ظروف استثنائية»، عبارة تُقال عادة قبل أسابيع أو أيام قليلة من انعقاد أى قمة عربية، وما دامت تتكرر دائماً لسنوات طويلة، فالمنطق يقول إن الظروف الاستثنائية العربية باتت هى الأصل، أما ما عدا ذلك فهو الاستثناء. والغريب أن الإعلانات والقرارات التى تصدر عن القمم العربية توحى وكأنها ستقود إلى انقلاب فى الوضع العربى، ثم نكتشف بعد أيام قليلة أن لا شىء جوهرى قابل للتحقيق، إذ تستمر الأمور على حالها وغالباً ما تزداد سوءاً، وكأن ما اتفق عليه ليس سوى مناورة من هذا البلد أو ذاك.
إعادة إنتاج المشكلات ذاتها والأزمات نفسها والإصرار على تجاهل الحقائق الجديدة فى الواقع العربى باتت سمة رئيسية فى حياة ما نُصّر على تسميته النظام الإقليمى العربى، الذى أصبح نظاماً لخلق الأزمات وليس حلها، نظاماً يطيح بالمصالح الجماعية من أجل فُتات المصالح القطرية، نظاماً لم يعد قادراً على البقاء وصار نموذجاً للفشل والتراجع والانكشاف أمام أهون المشكلات والأزمات، مثل هذه الاستنتاجات ليس تشاؤمية كما يبدو للبعض ولكنها واقع نعيشه منذ أربعة عقود، إذ لو كان هذا النظام الإقليمى ديناميكياً ولو قليلاً، ويتمتع بحيوية التجديد الذاتى وزيادة مساحات العمل العربى المشترك، وتقديم الأولوية للمصالح الجامعة، فهل كان وضع العرب على ما هو عليه الآن من تشرذم وانهيار دول، وصراعات وحروب ولاجئين يزدادون كل ساعة وليس كل يوم، وتراجع فى الأداء التنموى والعلاقات البينية، وضغوط من كل جانب؟ بالقطع لا، ومع ذلك يتهرب القادة العرب من مسئوليتهم تجاه هذا الوضع الكارثى، وتتهرب الدول من الاستحقاقات الواجبة عليها.
وحتى لا يكون الكلام مُرسلاً، ومن قبيل تقديم المثل، فنحن نعرف جميعاً ونرى بأم أعيننا أن سوريا الآن يتم تدميرها بمنهجية فائقة الترتيب منذ ست سنوات مضت، وشارك وما زال يشارك أطراف عربية فى هذا التدمير لبلد عربى مهم، ويشارك معهم بكل همة آخرون من الإقليم ومن العالم معاً، ويدرك الجميع أن انهيار هذا البلد سيكون وبالاً على المشرق والمغرب معاً، ومع ذلك فلا توجد سوى كلمات منمقة حول مساندة عملية تسوية سياسية وفق القرارات الدولية، حسب ما يجىء فى بيانات القمة المعتادة، لم يقم أحد بإعلان مراجعة مواقفه التى تسببت فى تدمير بلد عربى وتشريد شعب عربى، ولم تستطع القمم العربية أن تقول للمخطئ إنك أخطأت التقدير وعليك التوقف وانتهاج سياسة جديدة، لم نر من أى قمة عربية فى السنوات الخمس الماضية من يقول للأطراف التى دعمت المرتزقة من كل مكان للذهاب إلى سوريا وإشاعة الخراب فيها باسم تحرير البلاد والعباد.. كفى هذا العبث، لم نجد خطة عربية تمنع تمويل الإرهابيين وتسليحهم وتدريبهم، لم نقرأ فى أى وثيقة عربية رؤية متكاملة لدعم سوريا البلد والشعب، تُركت الأمور للتدخلات لكل من هب ودب، وتطوع البعض من العرب بكل همة وجسارة بجعل الأزمة والحرب الأهلية فى سوريا جزءاً من حرب بالوكالة مع أطراف إقليمية تظللها شعارات طائفية ومذهبية مُدمرة بكل المقاييس.
وإذا كنا نرى أن القائمين على سوريا، خاصة نظام الرئيس بشار الأسد قد أخطأ فى كثير من الحسابات وتسبب فى خراب كبير، فإن بعض العرب الذين نصبوا أنفسهم معارضين له قد تفوقوا عليه فى الحسابات الخاطئة مئات بل آلاف المرات، وتسببوا أيضاً فى المزيد من الخراب والتدمير، وأمام الله والشعوب والتاريخ يتحملون المسئولية التاريخية عما وصل إليه الحال السورى، والنتيجة كما نراها الآن، نظام يدافع عن نفسه ولا تهمه أعداد الضحايا الذين يتساقطون كل لحظة، وعشرات من الفصائل والمرتزقة من كل الجنسيات، التى تتصارع مع بعضها غالباً وتتحالف ضد النظام وجيشه بصورة عابرة أحياناً أخرى، وكل منها يرهن منطقة بأهلها ومواردها من أجل أهداف عبثية لا تقيم دولاً ولا تراعى حقوقاً لأحد وتتورط فى جرائم حرب ولا أحد يبالى، وتدخلات عسكرية وسياسية من قوى كبرى وإقليمية تدفعها مصالحها الخاصة وصراعها الصفرى مع المنافسين الآخرين، ولا يعنيها كم مات سابقاً من السوريين وكم سيموت لاحقاً، والشىء بالشىء يذكر فحال اليمن يكاد يعيد المشهد السورى مع اختلاف فى تفاصيل صغيرة، ولكنها لا تغطى أبداً على حجم المعاناة والانهيار والجوع وبوادر التقسيم واستباحة كل شىء بلا رادع.
قبل قمة عمان بشرنا البعض بحدوث مصالحات عربية عربية بين هذا البلد أو ذاك، وبالقطع فإن استعادة الحد الأدنى من الرشد والحكمة فى العلاقات البينية العربية يعد شيئاً محموداً فى حد ذاته، لكن يظل هناك السؤال الغامض على أى أساس بُنيت هذه المصالحات، وما الضمانات التى تحول دون العودة إلى التوترات المعلنة أو الخفية مرة أخرى، ثم ما الآليات التى سوف تقررها القمة لحفظ الحقوق لهذا الطرف أو ذاك؟ أسئلة كثيرة بلا إجابات تعنى فى الواقع أن الأمور ليست سوى تحصيل حاصل، أو بمعنى آخر أن المصالحات المزعومة هى وهم لا أكثر ولا أقل.
فى العادة فإن القمم التى تجمع الرؤوس الكبرى تعنى فرصة لمراجعة الماضى والحسم من أجل المستقبل، فماذا عن قممنا العربية؟ لا ينكر أحد أن حجم التغيرات التى مرت بها القضية الفلسطينية منذ إقرار المبادرة العربية 2002، قبل عقد ونصف، هى تغيرات كبيرة غيّرت معالم الأرض المحتلة، وبدلت العلاقات بين الفلسطينيين أنفسهم وبين الفلسطينيين والعديد من العرب ومع الإسرائيليين والقوى الدولية، ومع ذلك يبشرنا بيان قمة عمان بأن العرب سوف يتمسكون بالثوابت ولن يغيروا طرحهم القديم بحل الدولتين والترتيب الوارد فى المبادرة العربية، للوهلة يبدو التمسك بالثوابت أمراً طيباً وإيجابياً، أما فى العمق وفى ضوء التطورات المحيطة بالقضية الفلسطينية أرضاً وشعباً، يبدو الأمر خيالياً بعض الشىء، وقد لا يستوعبه العقل، فهل يتصور أحد الآن أن حل الدولتين قابل للتطبيق بالصورة الواردة فى المبادرة العربية؟ وفى المقابل ألم يكن من الأجدر أن تبحث القمة بدائل أخرى وأن تضع مشاهد مختلفة يمكن التعامل معها إذا اقتضت الضرورة ذلك.
لقد تعبنا جميعاً من النظرة الأحادية لكل ما يحيط بنا حتى انتهى الأمر إلى نتيجته المحتومة، استمرار الأمر على المنوال ذاته يعنى التقدم خطوات إلى الانتحار، ودون ذلك فهو الوهم بذاته.