غداً الذكرى الأربعون لوفاة عبدالحليم حافظ. جيلنا بأكمله يرتبط بالعندليب الأسمر برباط وثيق، لست أدرى هل مرده سحر خاص فى صوته، أم فى المعانى التى كانت تحملها أغانيه وتداعب أخاديد خاصة فى كهوف وجداننا، أم فى زمن عشنا فيه طفولتنا ومراهقتنا، وتهادينا فى المراحل الأولى للشباب. تقديرى أن الحنين إلى عبدالحليم يشمل كل هذه الأشياء: الصوت والمعنى والزمن، لكن مؤكد أن هذا الأمر خاص جداً بـ«حليم»، فقد غنى من حوله عمالقة كبار لا يثيرون فى النفس ذات الإحساس الذى يستدعيه صوته، بل وظهر إلى جواره أيضاً مطربون كثر، كان صوتهم أقوى، وأحياناً أجمل من صوته، لكنهم عجزوا عن تحقيق، ولو جزءاً يسيراً، من مجده، و«التعليم» فى الجيل الذى عاصر صوته.
«عبدالحليم» كان حالة إنسانية خاصة جداً، مثّل «الصدق» مفتاح تأثيره، وأساس استمراريته فى حياتنا، وجوهر قدرته على ردنا إلى زمنه. كان «العندليب» يصدق حين يغنى، يصدق فى كل كلمة يغنيها لأنه كان يعيشها، كلمات أغانيه كانت تلمس أوتاراً معينة فى خريطته النفسية التى غذاها المرض واليتم والحرمان ومعاناته فى شق طريقه نحو النجاح، وتكامل معها إحساس بالغربة يبدو أنه كان يشعر به، رغم كثرة وتكاثر البشر من حوله. إحساس بالغربة ربما قاومه «عبدالحليم» فى بدايات رحلته، لكنه استسلم له بمرور الوقت. لا تتعجب فقد يكون أكثر الناس غربة هو من يتكاثر البشر من حوله. الصدق كان جوهر من جواهر تجربة عبدالحليم حافظ، وقد سمعت الكاتب الكبير مفيد فوزى يصف عبدالحليم بأنه كان «يصدق حين يغنى.. يكذب حين يتكلم». معادلة قد تستفز البعض، وقد كانت تستفز الكثيرين ممن أحاطوا بعبدالحليم، لكننى أجدها معادلة إنسانية عادية للغاية. الحالة العادية للفنان الحقيقى هى الكذب، ولحظات الصدق فى حياته هى لحظات إبداعه، وكلما زاد «كذب الفنان» على عالم الأكاذيب الذى ينسجه البشر فى أحوالهم العادية، ارتفع مخزون الصدق لديه، ويبدو أن أغلب من امتلكوا قدرات فنية أعلى من المطربين الذين تعاصروا مع عبدالحليم وقعوا فى فخ الصدق مع الآخرين، فكذبوا عندما غنوا.
الحقيقة مرة، لذلك يلجأ البشر إلى الكذب، بل قل إن الحقيقة بضاعة كاسدة لا يقبل على شرائها أو تعاطيها أغلب الناس. الناس تعشق الكذب، لأنهم يريدون الرزق!. تأمل قليلاً الآية الكريمة التى تقول: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ»، وسوف تستوعب ما أرمى إليه. ربما كان عبدالحليم كذاباً حين يتكلم، لأن المؤكد أن كثيرين ممن أحاطوا به كانوا يكذبون، والعندليب كان شخصية ذكية، يبصر تلال الأكاذيب المحيطة به، ويبادلها كذباً بكذب، لأنه أراد أن يعيش وينجح، واكتفى بأن يخصص كل مساحة الصدق فى نفسه لفنه، فصدق مع الناس حين غنى، فصدّقه الناس وهو يشدو للحب أو الألم أو الخيانة أو الوطن، حتى فى مجموعة الأدعية الشهيرة التى كتبها له المبدع عبدالفتاح مصطفى، وشدا بها حليم كان الصدق يعصر كل همسة فى صوته. رحم الله «الكذوب الصادق» عبدالحليم حافظ.