يحتاج الأمر فى كثير من الأحيان أن نلقى بثوابت التقييم المتاحة لدينا جانباً.. لنتمكن من الحكم على ما نراه ونعيشه بمفهوم أكثر شمولاً.. دون الأخذ فى الاعتبار أى تحيزات مسبقة.. ودون الخوض فى جدل الصواب والخطأ بمفهومنا الذى نعرفه!
ففى تأمل عميق للصورة المنتشرة للجيل المقبل بكل ما تحمله مفرداته من كلمات «خارجة» من وجهة نظرنا.. وبكل ما يدور فى ذهنه من أفكار نعتبرها «سلبية» فى معظم الأحيان.. ربما سنجد الكثير مما نرفض.. ولكننا قد نجد الأكثر مما نحب! فالنظر بمنظور أخلاقى ضيق يستند إلى ثوابت التربية التى عرفناها صغاراً.. سنكتشف انهياراً شبه كامل لكل ما نعرفه من ثوابت وقيم.. ربما لم نكن نجرؤ على التفكير فى تجاوزها أو تهميشها فى حياتنا الصغيرة السابقة! ولكن إذا اتسعت الرؤية لتشمل عوامل أكثر تعدداً.. ربما سنكتشف أن الجيل الحالى لم يكسر قواعده الشخصية.. ولم يتجاوز ثوابته التى وضعها لنفسه.. التى لا نعرف عنها شيئاً تقريباً! لا ينشغل الشاب الآن بمفرداتنا التى تعودنا عليها.. لا يعترف ببديهيات الأجيال السابقة عما هو صواب أو خطأ.. فقد وضع مفهومه الخاص.. الذى ينبع من بدائل جديدة تماماً.. تتناسب مع إيقاع العصر أكثر من تناسبها مع مرجعيات الحيوات السابقة التى كانت تقيم أوزاناً لكيانات غير موجودة الآن من الأساس! الأصل لدى الأطراف كلها هو القيم المطلقة.. فالحق والخير والجمال لم يتبدلا بتبدل الأجيال المتعاقبة.. ولكن لا شك أن مفاهيمهم وتعريفاتهم هى التى وقعت فى فخ التقييم والتعديل، بل والتعويم بين العقود المتتالية!
والأمثلة ربما تجعل الأمر أكثر وضوحاً.. فمتى قررت أن تستمع إلى أغنيات زكريا أحمد التى استمع إليها والدك عندما كان صغيراً؟.. متى رأيت أن ارتداء الطربوش هو قمة الأناقة؟! بالمثل يراك الجيل الجديد.. فهو لا يجد ملابسك تناسبه بالمرة.. ولا يجد ابتذالاً فى أن يرتدى بنطالاً ساقطاً أو كما يسمونه (low waist).. لن تتمكن من إقناع الشاب الذى لم ير حنان ترك وهى شابة كم هى جميلة.. إنه يرى الجمال ذاته فى سارة سلامة.. بل ويخفق قلبه كلما ظهرت على الشاشة أمامه كما كان يحدث معك تماماً.. ولن تتمكن من كسب جدال مفاده أن أغانى حميد الشاعرى -الموحدة اللحن ومفككة الكلمات بالمناسبة- هى أفضل من كلمات أغانى المهرجانات الحالية! إنهم يشبهون عصرهم فى معطياته.. فمفردات المزاح نفسها يستخلصونها من أفلامهم.. والصور الجمالية فى كتاباتهم يجدونها بين كلمات أغانيهم.. إنهم يماثلون المادية التى غلبت على الزمن الحالى تماماً.. لذا لن تجد منهم من يتأثر بمن كتب عن الحب الأفلاطونى.. لن تجد منهم من تدمع عيناه لبيت شعر من قلم فاروق جويدة.. ولكنك ستكتشف أنهم يدللون على وجود الحب بـ«إيه اللى يثبتلى إنك حقيقى؟»!.. الثابت أن المرجعيات الدينية لم تتغير.. أو هكذا نظن ونتمنى.. فالسرقة تحمل نفس التحريم.. والظلم ما زال يؤلم فى كل العصور.. فقط تغيرت التعبيرات عن وجوده أو الشعور به دون أن يتغير الإحساس ذاته! لقد قرر البعض أن الأزمة الحالية أخلاقية بالدرجة الأولى.. ولكنهم لم يحاولوا أن يضعوا فى اعتبارهم أن الأخلاق ليست مطلقة.. وأنها استنساخ لعصر يحمل تعريفات جديدة.. ومفاهيم مختلفة تماماً.. على الأقل بالنسبة لنا! الجيل الحالى ليس منهاراً.. ولا يعانى من أزمة أخلاقية بالمقام الأول.. إنه فقط يختلف عن جيلنا والأجيال التى سبقتنا.. فقط فقدان التواصل.. واتساع الفارق فى الاختلاف الذى يرجع إلى تسارع الزمن وإيقاع العصر نفسه.. الذى يتسارع بعجلة فيزيائية.. ربما أسرع من عجلة الجاذبية الأرضية.. إن كنت ما زلت تذكر معنى «عجلة الجاذبية».. يمكننا أن نعيد النظر إلى الأجيال اللاحقة بمنظورهم هم.. لنكتشف فيهم عيوبهم وميزاتهم.. ولنستوعب طاقاتهم التى نسفهها كثيراً حين نجد أنهم لا يتبعون أفكارنا وثوابتنا.. بالرغم من أنهم قد ينتجون لنا الكثير من المطلق.. الذى لا نختلف عليه.. ولكن فقط.. بمنظور مختلف!