أبحث وأنقّب وأدقق فى كل ما يُكتب أو يُقال أو يُثار من قبَل «المعارضة» فى مصر لأكوِّن رأياً حول البدائل التى تطرحها، والنقاط التى تناقشها، والقواعد التى ترتكز عليها. والمقصود بالمعارضة فى هذا السياق ليس الأحزاب، وذلك لأسباب يطول شرحها وتتراوح بين كرتونية التكوين وهشاشة الأثر وجمود التغيير. المقصود هو أكثر أنواع المعارضة شيوعاً وبزوغاً ووضوحاً هذه الآونة، حيث تدوينات «فيسبوك» وتغريدات «تويتر» سريعة الاشتعال حامية الوطيس شديدة التأثير. هذه التدوينات والتغريدات لا يقتصر أثرها على محيطها العنكبوتى، بل يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث مجتمع ما زال يعتمد بشكل واضح على «قالك» و«بيقولك» و«بيقولوا» وهى التصريفات المشتقة من فعل القول والتى عاصرت ثورة الإنترنت وعصر تقنية المعلومات. وبدلاً من أن يكون مصدر القول رأياً أدلى به ضيف تليفزيونى، أو مقالاً كتبه مثقف، أو تصريحاً صدر عن مسئول أصبح ما كتبه أحدهم على «فيسبوك» أو «تويتر» هو المصدر المؤكد والخبر الموثوق. ورغم هذا البزرميط فى صناعة الرأى العام، يجب الاعتراف أن فى حياة كل منا -أو بالأحرى على صفحات كل منا- مجموعات مختلفة، أو فلنقل متنافرة، من الآراء والمواقف التى يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال المعارضة المفتقدة فى حياتنا السياسية والتى أجهزت عليها الأحزاب فمات كلاهما. وقد لاحظت بزوغاً لا يمكن تجاهله لمنهج «كل يوم قلقاس.. كل يوم قلقاس!!» فى منهج البعض من منتهجى المعارضة، فى حين يرفع آخرون شعار «كل يوم مكرونة بالفراخ.. كل يوم مكرونة بالفراخ» ليميزهم عن الآخرين. خذ عندك مثلاً موقف المعارضة العنكبوتية من ترك الرئيس السيسى القاعة أثناء كلمة أمير قطر، وذلك بغضّ النظر عن حقيقة أسباب ترك القاعة. انتفض البعض صاباً الغضب وموجهاً التهم وداقاً على أوتار سموها بالمراهقة السياسية والسطحية الدبلوماسية والميول الانتقامية، فى حين اندفع البعض الآخر ليصف الحدث بألفاظ تفخيمية وعبارات تبجيلية.
اعتبر المؤيدون الحدث أقرب ما يكون إلى انتصار عسكرى وفوز استراتيجى وتحرك طال انتظاره. وإذا كان الموقف الأخير مفهوماً فى ظل تملك مشاعر الغضب من مواقف قطر المتتالية المعادية لمصر، فإن موقف المعارضين غير مفهوم على الإطلاق، فأولئك هم من هاجوا وماجوا حين صافح الرئيس السيسى أمير قطر فى نيويورك فى عام 2014، واصفين ذلك بالانبطاح والانكسار والانهزام. انبطاح المصافحة، الذى تحوّل مراهقة سياسية لترك القاعة، يحيى هذا المشهد الشهير فى فيلم «مراتى مدير عام» الذى شهد الراحل صلاح ذو الفقار يبث سموم غيظه فى زوجته الفنانة شادية، فيعلن تضرره من تكرار القلقاس يومياً على مائدة الغذاء، وحين تباغته بأن القلقاس ليس إلا مكرونة بالفراخ يغضب أكثر ويندد: «كل يوم مكرونة بالفراخ.. كل يوم مكرونة بالفراخ!!». مواقف المعارضة المصرية فى عصر ما بعد الحداثة كثيرة ومتنوعة ولا يمكن حصرها فى سياق واحد. فقبلها كان حلق الست زينب والسخرية من تبرع السيدة المسنة متواضعة الحال بحلقها لصالح صندوق «تحيا مصر»، حيث سخر المعارضون وانتفض الكارهون مفجرين قنابل من التريقة اللاذعة والتقليل من شأن السيدة وحلقها وفكرة الصندوق وكل من يفكر فى التبرع لصالحه. وبعدها وقبلها وأثناءها نشطت التدوينات وتأججت التغريدات بمعارضة حامية الوطيس مرة لأن الرئيس قال إننا «فقراء قوى» وكأننا لسنا فقراء، وأخرى حين التقى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وقت كان مرشحاً، وتعالى الهبد وتصاعد الرزع بين المؤكدين أن المقابلة لا معنى لها لأنه بكل تأكيد لن ينجح، وحين التقى المرشحة (حينئذ) هيلارى كلينتون والتى أكدوا فوزها دون شك مرّ اللقاء مرور الكرام. ولأن الرئيس الأمريكى السابق أوباما لم يلتق والرئيس السيسى ولم يدعه لزيارة البيت الأبيض، فقد تم فرش الملاية كما لم تُفرش من قبل، حيث «مصر بجلالة قدرها محرومة من زيارة البيت الأبيض». لكن حين تمت دعوة مصر للبيت الأبيض تحولت إلى دعوة خالية من الثقل منزوعة المضمون لا تستحق الكثير من الاهتمام.
وتستمر تجليات المعارضة دون هوادة. وعلى الرغم من أن مواثيق حقوق الإنسان وعهود احترام الحريات تكفل للجميع حرية التعبير والاعتراض والامتعاض فإن المعارضة الفعلية -سواء كانت فى صورة أحزاب سياسية أو تلك المتفجرة عبر خيوط العنكبوت- هى تلك القادرة على أن تطرح نفسها كبديل للحكم، أو ناصح أمين للشعب، أو حتى مجرد غذاء فكرى للعقل. قد ينبرى البعض مدافعاً بأن الأجواء السياسية الحالية مجهضة للحياة الحزبية ومثبطة للمشاركة السياسية، لكن ماذا عن المعارضة العنكبوتية؟ لماذا لا تنتهز فرصة الموت السريرى للأحزاب وتجذب اهتمام العباد وتركز على مصلحة البلاد فتطرح بدائل طال انتظارها وتقترح حلولاً انجلى أمدها؟ لقد ظلت السخرية والنكتة السياسية سلاحاً مصرياً شعبياً بامتياز، ينقل الفكرة، وينشر التوجه، ويكسب أرضية شعبية معتبرة، لكن السخرية لغرض السخرية سمة من سمات موت المعارضة موتاً سريرياً لم يفرق بين حزب ضربه الجمود وآخر اخترقته المصالح وثالث نهشته السطحية ورابع وقع أسير خيوط العنكبوت المتشابكة فلفها حول رقبته. الشعبية الافتراضية لمئات الـ«شير» وآلاف الـ«لايكات» لا تصنع شعبية حقيقية. قد تجد تدوينة طريقها إلى برنامج توك شو ليتبناها أحدهم باعتبارها فكرة ثورية من بنات أفكاره، لكنها تظل فكرة طالما هى خالية من المضمون. وقد تحقق تغريدة رشيقة ملايين «إعادة التغريد»، لكنها تظل زقزقة افتراضية فى واقع لا يعترف إلا بالبدائل الحقيقية.