فى نهاية شهر يناير من العام 2009، وصل رئيس الوزراء التركى (آنذاك) رجب طيب أردوغان إلى بلاده عائداً من دافوس، فوجد أفواجاً من الجمهور فى انتظاره، هاتفة له: «تركيا معك»، و«زعيم عالمى جديد»، و«لقد شاهد العالم قوة الأتراك»، و«الآن أصبح لنا مكان فى أوروبا والعالم».. وهى هتافات لم يسمعها من قبل، رغم تاريخه السياسى، ومدائح لا يتوقعها هو أو زعيم تركى غيره، حتى لو جنّب بلاده تأثيرات الأزمة المالية العالمية، أو حسّن برامجها الصحية والتأمينية، أو خفّض معدلات البطالة، أو زاد النمو الاقتصادى، أو طور سلاحاً نووياً.
لم يفعل أرودغان الكثير، هو فقط تلاسن مع الرئيس الإسرائيلى شمعون بيريز، وانسحب من لقاء معه فى منتدى دافوس، بعدما هاجم استخدام إسرائيل المفرط للقوة فى عدوانها على غزة، وقتلها النساء والأطفال، وحصارها للشعب الفلسطينى الأعزل، وقصفها للمساجد.
انتشى الجمهور فى العالم العربى، وهتف بحياة أردوغان مع الجماهير التركية، وعاير زعماءه لأنهم لم يكونوا بقدرة الزعيم التركى، ولا حتى زعيمى بوليفيا وفنزويلا، لكن أحداً لم يسأل: «ما الذى تملكه تركيا بحق ويمكن أن تستخدمه للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة بما يخدم المصلحة الفلسطينية؟».
لقد وقعت تطورات دراماتيكية فى العلاقات التركية- الإسرائيلية فى عهد أردوغان الذى يمتد من وصول حزبه «العدالة والتنمية» للسلطة فى 2002، إلى الآن، دون أن يعرف أحد على وجه التحديد متى يمكن أن ينتهى.
ورغم التوترات الكبيرة التى نشأت فى أعقاب قصف غزة، ثم حادث الاعتداء على السفينة التركية «مافى مرمرة»، فى 2010، فإن تلك العلاقات ظلت استراتيجية وراسخة ومتطورة، على صعد التجارة والتنسيق السياسى والتعاون الأمنى، كما أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التى عقدت بين الدولتين فى 1996، ظلت فعالة ولم تتعرض لأى مراجعات، حتى بعد وصول أردوغان إلى السلطة.
ويمكن وصف أداء أردوغان تجاه العلاقات مع إسرائيل بأنه «براجماتى» من الطراز الأول، وأنه أداء استعراضى أيضاً، يريد من خلاله أن يكسب أصوات البسطاء من الجماهير، وأن يخلق صورة «زعيم إسلامى» يدافع عن القضية الفلسطينية، من دون أى أعباء سياسية، وبلا أى تكاليف.
يعطينا هذا الاقتراب معالم متكاملة لإدارة براجماتية بامتياز يحرص عليها أردوغان ويتقنها فى آن. فى صيف العام 2015، زار أردوغان جاكرتا، فى إطار جولة آسيوية، ومن بين التصريحات التى أطلقها خلال تلك الزيارة تصريح قال فيه بالنص: «شاغلنا الأول هو الإسلام».
يلعب أردوغان اللعبة العقائدية بانتظام، ولا يمل من التلاعب بمشاعر البسطاء من المسلمين، حين يقدم نفسه لهم بوصفه مبعوثاً «لنصرة الإسلام وإعادة أمجاده»، من دون أن يفسر التناقضات الكبيرة التى تنشأ بين الإدارة العلمانية للدولة، التى تحققت النجاحات الكبيرة بفضلها، وبين الخطاب العقائدى الذى يتبناه، والذى يبدو أنه منحه الكثير من أصوات الجمهور، خصوصاً هؤلاء الذين يعيشون فى أسفل السلم الاجتماعى، فى محافظات البلاد البعيدة.
تقول وكالات الأنباء العالمية إن شوارع المدن التركية تحفل فى هذه الأثناء بالكثير من اللوحات الإعلانية التى تغطى البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتحمل كلمة «إيفيت» التركية، أى «نعم» بالعربية، فضلاً عن صورة الرئيس أردوغان، أو رئيس وزرائه بن على يلدريم، لحض الجمهور على التصويت بالموافقة على التعديلات الدستورية، فى الاستفتاء المقرر إجراؤه منتصف شهر أبريل الحالى.
يستهدف أردوغان، من خلال حملة دعائية وسياسية مكثفة، أن يحصل على موافقة الجمهور على تعديلات دستورية تمنحه سلطات شبه مطلقة، وتحول النظام الذى يحكم البلاد من الصيغة البرلمانية الراهنة إلى صيغة رئاسية، وأن يحول الأمر الواقع الحالى، الذى ينفرد فيه بكل صلاحيات الحكم، إلى وضع دستورى، يمكن من خلاله أن يكون زعيماً بسلطات واسعة، عبر شغل منصب الرئيس حتى العام 2029.
خلال الحملة الدعائية التى ينشط فيها أردوغان وأركان حزبه، قام بزيارة إلى إحدى نقاط المعارضة التى تعارض خطته السياسية، خلال الأسبوع الماضى، وتحدث إلى بعض الموجودين فيها، وحين سأله أحدهم: «لماذا أطلقت اسم السلطان سليم الأول على الجسر الجديد الذى تم إنشاؤه أخيراً؟»، أجاب بقوله: «إن مساحة البلاد فى عهد هذا السلطان العظيم كانت 15 مليون كيلومتر مربع، وهذا أمر يجعل من حمل الجسر اسمه شرفاً كبيراً».
فى أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة التى استهدفت حكم أردوغان، منتصف العام الماضى 2016، شن الرجل حملة استهداف غير مسبوقة على من وصفهم بـ«أعوان الانقلاب»، وهى حملة حولت البلاد إلى «سجن كبير» كما تقول المعارضة وكثير من النقاد والمحللين المستقلين.
بعد أيام قليلة من المحاولة الانقلابية، كان أردوغان قد اعتقل أكثر من ستة آلاف عسكرى برتب مختلفة، و118 جنرالاً وأدميرالاً فى الجيش، وأدرج نحو ثلاثة آلاف قاضٍ ومدعٍ عام على قائمة المطلوبين للاعتقال، وعزل نحو عشرة آلاف من مسئولى وزارة الداخلية، وأقال أكثر من 30 حاكماً إقليمياً، وأكثر من 52 مفتشاً مدنياً من عملهم، كما ألغى رخصة 21 ألف مدرس، وأوقف 15200 من الموظفين فى وزارة التعليم عن عملهم، وأوقف نحو 370 موظفاً عن العمل فى هيئة الإذاعة والتليفزيون العمومية، كما طالب نحو 1577 عميداً ومسئولاً بمؤسسات تعليمية عليا بالاستقالة.
بسبب خطة التصفية السريعة والمحكمة والواسعة، شكك بعض المحللين فى المحاولة الانقلابية، واعتبر كثيرون أنها ربما كانت مدبرة لإحكام سيطرة أردوغان على البلاد، والتخلص من خصومه، ودفع الجمهور دفعاً إلى الخوف، الذى يسهل فى ظله، أن تتم الموافقة على التعديلات الدستورية.
لا توجد أدلة تدعم هذا التحليل، لكن أردوغان استغل المحاولة الانقلابية بالفعل لكى يحرك ذرائع الخوف لدى الجمهور، كما اعتبرها مدخلاً منطقياً لتصفية خصومه السياسيين، واعتماد خطة التحول السياسى، التى تحول البلاد إلى النظام الرئاسى، تحت سلطته وحده. يقتضى الإنصاف القول إن الرئيس أردوغان يستند إلى قاعدة جماهيرية صلبة، خصوصاً فى أعماق البلاد، كما تتعزز حظوظه التنافسية دائماً بإنجازات اقتصادية وخدمية وتنموية مبهرة تحققت فى سنوات حكمه، التى امتدت من 2003 إلى 2014 كرئيس للوزراء.
فى تلك السنوات استطاع هذا الرجل أن ينقل تركيا من وضع بائس ومتدهور إلى مكانة رفيعة، عبر خطط تنمية وتحفيز اقتصادى ناجحة وفعالة، جعلت منها واحدة من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً فى العالم، متمتعة بنمو مطرد ومستقر، وبقدرات سياسية وعسكرية معتبرة.
لكن هوسه بالسلطة، ورغبته العارمة فى أن يظل حاكماً مطلقاً للبلاد لأقصى فترة ممكنة، تهدد مشروعه وسجله التاريخى، وتضع كل ما أنجزه على المحك.
هذا الزعيم الذى يتسم بالبراجماتية الشديدة، والعقائدية المفرطة، والقدرة الواسعة على البطش، والهوس بالتوسع، والولع العارم بالسلطة، يعطينا مثلاً جديداً على صناعة الاستبداد، الذى أخبرنا التاريخ أنه لا يبدد إنجازات الماضى فقط، لكنه، أيضاً، يضع المستقبل فى مهب الريح.