عندما يتصدى مفكر عربي لفكرة أن مبادئ حقوق الإنسان العصرية التى بلورها الإعلان العالمي للحقوق الصادر عام 1948، ليست صناعة غربية، وأن الأديان السماوية التى نشأت في بلادنا العربية منذ الاف السنين قدمت للعالم مفاهيم راقية جدا لحقوق الإنسان، يسارع البعض فيما يشبه العقدة ـ وأغلبهم ليسوا غربيين ـ للتصدى لهذه الفكرة ونسفها تماما بحجة أو بأخرى.
لقد تحولت "غربية حقوق الإنسان" رويدا رويدا إلى فكرة مقدسة مثل نصوص الكتب السماوية، لتصبح مناقشتها "تابو" يحرم على أي شخص الاقتراب منه، وإلا وقع في المحظور من وجهة نظرهم، وعلى هذا النحو تم التصدى لاجتهاد مفكر وفيلسوف العربي د. محمد عابد الجابري، الذى قارب في كتابه"الديمقراطية وحقوق الإنسان"، بين القيم الحقوقية الغربية ممثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبين مبدأ الشورى وكفالة الحقوق الإنسانية في الشريعة الإسلامية.لكن الجديد هذه المرة أن يأتي مفكر وفيلسوف غربي وهو الألماني هانز يواس، عالم الاجتماع ، ليقدم نظرية متماسكة تقول للعالم إن حقوق الإنسان ليست صناعية غربية، في كتاب ترجمه بسلاسة إلى العربية المحلل السياسي والمترجم أيمن شرف، وأصدره منذ أيام عن دار نشر الترجمان، لصالح معهد جوته.
"يواس" يركز في دراسته على القرن الثامن عشر وماتلاه، ليثبت أن تاريخ حقوق الإنسان في العصر الحديث، يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ التعذيب والعبودية، ويقول إن نشأة حقوق الإنسان ـ كعملية ثقافية وليست مجرد عملية قانونية ـ لم تمضى دائما على خط مستقيم، وأنها بدأت في اكتساب حضور أكبر في الوعى الإنساني خلال الفترة المحورية من عام 800 ‘لى عام 200 قبل ميلاد السيد المسيح في الشرق الأوسط القديم، وفي الصين والهند أيضا.
ويرصد المفكر الألماني مفارقة تخص أوروبا ويقول إنها في الوقت التى كانتت تتحول فيه الدول الأوربية إلى الحكم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت تسير في مستعمراتها في الاتجاه المعاكس، حيث ظل التعذيب ممارسة مستقرة في كل المستعمرات الأوربية، بل كان التعذيب أوضح أشكال السلطة الاستعمارية، وكان يستخدم بشكل منهجى، ضاربا مثلا بمارسات فرنسا اثناء احتلالها الجزائر، وسياسة القمع البريطانية في كينيا.
ثم ينتقل "يواس" إلى اللحظة الراهنة فيقول:"لقد أصبحت جوانتنامو، وأبوغريب رمزا لمدى السرعة التى يمكن بها قمع قيمة الكرامة الانسانية تحت ضغط قيمة"الأمن القومي"، وقد عاد ماكان يحدث من تعذيب في حرب الجزائر ليتكرر في مراكز الشرطة الفرنسية.
ثم يختم المفكر الالماني محذرا من تعالى الغرب بسبب ظنه أن إعلان 1948 يمثل تفوقا ثقافياعلى بقية شعوب الارض، بقوله:"حقوق الإنسان ليست ميراثا راسخا يثبت تفوق ثقافتنا".