حين انضمت جموع الشعب إلى من أشعلوا ثورة يناير، بجّل الثوريون الشعب بأنه «وطنى وفاهم ومدرك»، وحين ثار قطاع غفير من الشعب على حكم الإخوان، وصمه الثوريون (الإخوان والسلفيون وأبناء عمومتهم) بأنه «شعب كافر زنديق لا يحب شرع الله»، وحين انتخب هذا القطاع العريض من الشعب الرئيس عبدالفتاح السيسى نعته جانب من الثوريين الرافضين له، ومعهم طرف نقيض ألا وهو أتباع الإسلام السياسى ومريدوه بأنه شعب «عبيد بيادة ويعشق الخنوع»، بل وذهب البعض منهم لما هو أبعد من ذلك! وحين دبت دماء الحياة مجدداً فى عروق محبى الرئيس الأسبق «مبارك» سواء عن حب خالص أو تقدير صادق أو مصالح اكتُسِبت فى عهده، وبات جلياً أنها لن تعود، رأوا أن الشعب «جاهل وأحمق» لأنه لا يشاركهم مشاعرهم تلك. هذا الشعب وجد نفسه منعوتاً مرة بأنه ذو وعى سياسى، وأخرى أنه لا هم له إلا بطنه، وثالثة بأنه يعبد البيادة، ورابعة بأنه بعيد عن شرع الله، والقائمة طويلة جداً. غاية القول أن على الجميع -باختلاف التوجهات والأيديولوجيات- أن يحترم عقل الشعب ولا يتعامل معه من منطلق «من ليس معى فهو ضدى»، أو على افتراض أنه ساذج أو ذو أفق محدود. واليوم ونحن فى العام الـ17 من الألفية الثالثة، وبعد حقب طويلة من أنظمة تأرجحت بين اشتراكية وسلطوية وشبه رأسمالية ونصف ديمقراطية وغارقة فى الثيوقراطية (الحكم الدينى) وما يستوجب كل منها من منظومات إعلامية لزوم الهيمنة والسيطرة وإحكام القبضة الفكرية، وما كان ينتج عن ذلك من هروب إلى أحضان «بى بى سى» تارة، و«سى إن إن» تارة، و«الجزيرة» تارة، و«فرانس 24» تارة، و«روسيا اليوم» تارة، وغيرها، فإنه من الواجب على كل ذى عينين وأذنين وعقل أن يعى الدرس.
أحد الدروس التى تأكد تماماً أن قليلين فقط هم من استوعبوها وهضموها وعملوا بها، هو كيفية نقل الرسالة الإعلامية بطريقة تحترم عقل المتابع، فلا تفرط فى تهليل ولا تقصر فى تبجيل ولا تعتقد أنها فى منأى عن المراجعة. زيارة الرئيس «السيسى» للولايات المتحدة الأمريكية فى هذا التوقيت وفى ظل أحوال الكوكب، وفى سياق خارطة الشرق الأوسط الجديد الجارى رسمها هى زيارة تاريخية بكل معانى الكلمة. فمن أمس قريب ناصبت فيه أمريكا العداء المعلن تارة والمكتوم تارتين، وصوبت (وما زالت) ضربات عدة من تحت الحزام لمصر وشعبها، إلى حاضر حتمت فيه مصالح دولية وتبدلت فيه أغراض وأهداف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تجد مصر نفسها فى بؤرة الضوء وفى قلب الأحداث، شاء من شاء وأبى من أبى أن يعترف. التسليم بتلك الحقائق، سواء كان مؤيداً للرئيس السيسى أو معارضاً أو بين بينين، لا يعنى أبداً أن تدور الرسالة الإعلامية المصرية فى فلك الزفة البلدى الصارخة مرة، أو فى إطار تطويع الواقع بالذراع مرة، أو ضمن مشاعر وطنية تهدف إلى تلميع الصورة تلميعاً مفرطاً وذلك بالتركيز على جانب دون آخر، أو باجتزاء الحقيقة وتسليط الضوء على زاوية دون غيرها. الإعلام الأمريكى يحفل يومياً بكم هائل من الانتقادات والاعتراضات والتنديدات بالرئيس الأمريكى المنتخب فى انتخابات ديمقراطية حرة دونالد ترامب. صحيح أنه (ترامب) يكيل الاتهامات العديدة لمؤسسات إعلامية بعينها بأنها منحازة أو مضللة أو كاذبة أو مزورة وغيرها، إلا أن الإعلام الداعم له لا «يزيط فى الزيطة» بالضرورة، ولا يستحوذ على الساحة دون غيره، ولا يشعر أولو الأمر هناك أن خطراً ما يهدد البيت الأبيض يستوجب الاستعانة بميكروفونات تصم الأذن وتغطى بصراخها على صراخ الآخرين. ومع كامل الاحترام لكل إعلامى وصحفى مصرى توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتغطية زيارة الرئيس، إلا أن هذا العدد الهائل والمبالغ فيه كان مثار استهجان محلى ودولى، حتى لو كان الصحفى تكفل برحلته من جيبه الخاص. وصحيح أن التغطيات تفاوتت فى النوعية والجودة، إلا أن الإفراط فى المشاعر -سلباً أو إيجاباً- والمبالغة فى التقييم -تهليلاً أو تنديداً، وحذف جانب من الصورة -تجميلاً أو تقبيحاً- لم تكن يوماً ضمن معايير العمل الإعلامى الجيد. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر التركيز الكلى فى وسائل إعلامنا المختلفة على ما جاء فى الإعلام الأمريكى من ترحيب وسعادة بالزيارة. لكن، ولأن الزيارة تاريخية ولأن المتربصين بمصر وشعبها نشطوا بشكل مفاجئ قبل الزيارة بأيام، ولأن المكلومين والمصدومين والحزانى يحاولون بكل الطرق إعادة جر مصر وشعبها إلى خانة «الانقلاب العسكرى الذى أطاح بأول رئيس مدنى منتخب أتت به الصناديق»، حيث أوركسترا الإخوان السيمفونى يصاحبه كورال الجمعيات الحقوقية والمراكز البحثية المدعومة إقليمياً والمرتكزة على أصول وأسس وسمعة غربية رنانة، فقد حفل الإعلام الأمريكى وكذلك البريطانى، بأقلام وأصوات وتوجهات ومقالات رأى وتغطيات خبرية تدور فى فلك وصم النظام المصرى بنعوت الديكتاتورية والقمعية وإعادة تدوير أكاذيب «الاختفاء القسرى» و«جماعة الإخوان السلمية» و«المحبوسين فى سجون العسكر» و«الأبرياء المقموعين والمخروسين والمسحولين». مثل هذا الستربتيز الإعلامى الأمريكى المدعوم من هنا وهناك لا يستوجب «زفة بلدى» فى شوارع واشنطن أو «رقصة شعبى» فى طرقات نيويورك، فلا الزفة سيفهمها الشعب الأمريكى، ولا الرقصة ستردع أصحاب التوجهات الخبيثة، بل يستوجب الوضع خططاً إعلامية مدروسة وآفاقاً صحفية مخططة تنتهج نهج العين بالعين والسن بالسن والمقال بالمقال والبحث بالبحث والاتهام بالحجج والبراهين والوثائق والوقائع.. أخشى أن يتحول الإعلام إلى دب يضر صاحبه.