أعترف منذ البداية أننى أكبح جماح القلم من أن يخط كلمات موجعة وحتى خارجة عن الحدود المقبولة، فما يحدث من بعض المسئولين ومن بعض الجهات يستثير الحجر ويدفعه إلى أن يقذف بنفسه إلى رؤوس عدة وجهات عديدة معلومة وغير معلومة.. إذ تختلط الأمور فى أيامنا التعيسة بحيث تربكك التصرفات الخاطئة خطأ جنونياً ثم تشير الأصابع إلى اتجاه ما فإذا بك لا تصدق، إذ يستحيل أن تكون أى جهة مسئولة ولا تشعر بالمسئولية إلى حدود إتيان هذه الأفعال التى لا يأتيها العقل من أى باب. وتتبدى خريطة الأفعال محبطة إلى درجة اليأس من تخيل إمكانية وجود توجه عاقل أو متعقل يستطيع استعادة الأمور إلى ساحة تصرفات متزنة.
ففى زمن تعانى فيه مصر من أوضاع صعبة وأشواكها تملأ كل الفراغات، والأزمات تتزاحم كل منها تحاول أن تستبق الأخرى لتقتادها نحو حافة الهاوية، نفتعل ودون مبرر، ودون تروٍّ، أزمة مع القضاة. وأنا -ولأننى لا أعرف عاقلاً من بين هؤلاء المختبئين فى هذه الجهة أو تلك- سأتوجه بكلماتى إلى المطلق. وأسأل هل هذا هو التوقيت الملائم لإطلاق قنابل مسمومة تسمم علاقاتنا وسمعتنا وتفترس حتى ما نتخذه من أقوال -وهى حقيقية- فتجعلها غير ذلك فى نظر الآخرين. وأنتظر من الفاعلين إذا كانوا قد تصرفوا من عندياتهم، إجابات أو حتى تبريرات أو شروح أو أى شىء يوحى بأننا فى زمان يمتلك فيه من يمتلكون فى مجلس النواب أو زمام مجلس النواب بعضاً من التفكير المتوازن. على أسئلة تحلق فى سماء اللاعقل.. فقبل سفر الرئيس فى زيارة لأمريكا، وهى محاطة بمحاذير وطموحات ومنزلقات، بعدة أيام، يطلق أحدهم أو بعضهم صاروخاً «أرض- أرض» ينطلق من أيدينا ليدور فيدوى متفجراً فى صدورنا فتخترع بدعة تعديل أسلوب اختيار شاغلى المناصب القضائية القيادية.
فهل هذا هو الوقت المناسب؟ وإذا كان الرئيس يواجه دوماً بأسئلة عن قسوة أحكام القضاء (وهى ليست فى نظرنا قسوة بل إن مجرمى الجماعة الإرهابية يستحقون أكثر) فيجيب الرئيس، وهو صادق تماماً، «نحن نلتزم بأحكام قضاء نزيه ومستقل تماماً»، والآن قد يسأله مستفسر فلماذا تفرضون عليه قيوداً فى اختيار قياداته. وإذا كان القضاة يقودون بحزم وعزم وبشجاعة نادرة معركة التصدى بسيف القانون لإرهابيى الجماعة الخارجين عن القانون فهل يستحقون منا أن نعاقبهم لدخولهم معركة المواجهة معنا؟ وإذا كان رجال الهيئات القضائية يتعرضون لسهام الخصوم فى الداخل وفى الخارج اغتيالاً وتهديداً لهم هم وأسرهم فهل هذا هو الوقت الملائم للتعدى على حقوقهم. وماذا لو سألت الزوجة أو الابنة أو الابن «هو انت مع مين؟ والمناوئين لكم مع مين؟»، وإذا كان ثمة قاضٍ ما لا يعجبكم فإن السلطة القضائية تقوم وقد قامت عديداً من المرات باستئصال الخطأ والمخطئ معاً. وإذا كنا نعرف أنه ما من قاضٍ فى المراتب الأعلى وحتى الوسطى من السلطة القضائية يحكم منفرداً وإنما معه آخران أو أكثر يفرضون رأيهم قبل صدور الحكم. وحتى فى حالات كأحكام الإعدام مثلاً يتعين أن يكون الحكم بالإجماع.. ويتعين أن تقوم النيابة بنقضه أمام دائرة أخرى.
ويحتج أحد الأشاوس بأن هذه مسألة داخله فى صميم اختصاص البرلمان.. ولكننى أرفض مثل هذه الحجج العقيمة. فالمسألة تتعلق أولاً وأخيراً بالتوقيت المناسب وتتعلق أكثر باللياقة فى التعامل.. وأقول للأشاوس إن وزير التعليم -رغم اختلافى معه- ضرب مثلاً فى قدر من اللياقة عندما تشاور حتى مع طلاب الثانوية العامة فى تحديد جدول الامتحانات. وإذا كان الأشاوس يرون أن هذه سلطتهم وحقهم واختصاصهم فماذا عن التوقيت؟ وماذا عن اللياقة؟ وماذا عن التداعيات التى قد تترتب؟ ثم إذا كان هذا حقهم الواضح الظاهر البينة فلماذا لم تبدأوا بالتحاور مع قادة القضاة ولو من باب اللياقة. والغريب أن أحد السادة النواب يتأوه مستغيثاً «لا يجوز أن يتراجع المجلس عن قراره تحت ضغط أحد، وماذا يقول الناس عنا؟»، وأقول وماذا لو أتتكم عاصفة قضائية لا راد لها. أنتم تسرعتم واخترتم الوقت الخطأ (وكأن البعض منكم قد تقصد ذلك) ثم تتأوهون؟
ويقول أحد المتأوهين: «وهل يلتزم المجلس بالتشاور مع كل من نصدر قانوناً بشأنهم من فئات؟». فأقول أولاً أنتم تشاورتم فى لجانكم مع فئات عديدة قبل إصدار قوانين بشأنها. بل رضختم لآراء شهبندر التجار بشأن التسعيرة الجبرية ورضختم لآراء كبار المليارديرات الذين أتوا إليكم متمسكين بعدم المساس بملياراتهم وخرجوا من إحدى اللجان وهم أكثر تمسكاً ولم يمسسهم خصم مليم واحد من ملياراتهم. وماذا كان سيضيركم لو استمعتم إلى القضاة كما استمعتم فى لجانكم لممثلين لفئات عديدة واستمعتم إليهم وخلاص. أم أن القصد والتقصد هو المباغتة؟ فهل هذه لياقة؟ وبهذه اللامبالاة للعواقب يشرئب واحد منكم فيتخيل إمكانية اصطياد شهرة أو متعة أو علو كعب فيصرخ مطالباً بتخفيض سن المعاش إلى الستين. هكذا دون تروٍّ ودون مراجعة لأسباب مد أمد الخدمة بالنسبة لأعضاء الهيئات القضائية حيث الحاجة ملحة لمزيد ومزيد من القضاة بسبب تراكم القضايا.. ثم الحاجة إلى عمق خبرة كبار القضاة الذين يتصدون بحكمتهم للبت فى قضايا جسام. ثم يتشجع هذا الواحد فيقلب موائد عديدة وكأن إشعال نيران الغضب القضائى قد أصبح لعبة يتسلى بها من يريد.. وهو لا يكتفى بالتلطيش فى مسألة القضاة، ففجأة وبعد يقظة من نوم العافية يقرر سكب بنزينة باتجاه آخر فيمتد سعيه نحو الأزهر الشريف وشيخه العتيد ليطيح فيهم بافتكاساته مطالباً بتحديد مدة خدمة الإمام الأكبر.. ويطيح فى الخلق بسيف صدئ بحجة حصانته وحقوقه البرلمانية. وأسأل السيد المستشار على عبدالعال «إلى أين مع القضاء الذى نتباهى باستقلاله وشفافيته والأزهر الشريف وشيخه الأستاذ الإمام الأكبر الذى نزهو على العالم بأنه رمز الوسطية ونستند إليه فى حربنا ضد الإرهاب الإخوانى الداعشى؟».
فإلى أين ستنتهى بكم الأمور.. وإلى أين تسوقون مصر؟ ارحمونا وارحموا أنفسكم من حكم التاريخ عليكم..
■■■
وبمناسبة البرلمان تذكرت أبيات شعر نصح بها أمير الشعراء (شوقى) نواب أول برلمان مصرى بعد الاستقلال.. وهى بكل تأكيد لا علاقة لها بما قلنا فى المقال.
[دار النيابة قد صفت أرائكها
لا تُجلسوا فوقها الأصنام والخشبا].