السياسة وتعقيداتها وخباياها قد أرهقتنا جميعاً، واحترنا فى أمرها، فهى تؤثر على حياتنا ومستقبلنا وتفاصيلنا، لكن أيحق لكائن من كان التحدث عنها!!؟ وإلى أىّ مدى يسمح لغير المختص بإبداء الرأى بها أو حتى التحليل!!
مفهوم السياسة أو (الدراسات السياسية) لم يعرفها العالم إلا مؤخراً، تقريباً فى نهايات القرن التاسع عشر، وكان منشأ هذا العلم أوروبياً بين باريس ولندن، ثم نُقل لاحقاً إلى أمريكا بكثير من التخصّص والتفصيل والتطوير.
لقد مورست السياسة على طول التاريخ البشرى، دون أن تُعرف بهذا الاسم، ولم تكن علوم السياسة منفصلة أبداً، بل كانت مزيجاً بين علم الاجتماع والعلوم الإنسانية وعلم الإدارة، حتى إن الدراسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى القاهرة بدأت أول دفعتين (بطلاب كليتىّ التجارة والحقوق).
أرى أن (السياسة) هى فن الإدارة للاقتصاد والموارد والبشرية وفن المواءمات والتوقعات الدقيقة، والحكمة العميقة، والتخطيط طويل وقصير المدى، وقراءة دروس التاريخ واستقراء المستقبل، هى مهارة قبل أن تكون مهنة، لهذا ربما نرى سياسياً متخصّصاً غير ناجح، وآخر سجل اسمه بالتاريخ كأعظم الساسة، وهو لم يدرس من فنونها أو علومها حرفاً.
يؤرخ لعلم السياسة أنه أخد منحى متخصّصاً جداً ومتطوراً وأكثر تفصيلاً بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك لأن ما أفرزته تلك الحرب الشهيرة قد غيّر خريطة العالم بظهور قوتين عظميين تمحور العالم حولهما، كما نشأت مصطلحات ونظريات واتجاهات سياسية لم تكن موجودة من قبل، فمنذ ذلك الوقت أصبحت السياسة علماً وتخصّصاً وفرعاً قوياً من فروع المعرفة، مستقلاً بذاته ورجالاته.
هى فن المواربة والإخفاء والدهاء وبناء التوازنات والتحالفات وحسابات المكسب والخسارة، أحياناً هى تروج لمفاهيم ميكافيللية لغايات مشوهة بوسائل حقيرة، وأحياناً هى نبيلة تبنى إمبراطوريات وأمماً وتعمّر وتنهض شعوباً وعلوماً وتطوراً.
هى أيضاً فن المتناقضات والكذبات والازدواجية، ففى الوقت الذى ترى به دولاً عظمى تنهض ببلدانها وشعوبها وتمضى نحو الفضاء تقدّماً، تجدها فى اللحظة ذاتها تبيد شعوباً، وتدمر اقتصاداً، وتنشر جهلاً، وتدعم إرهاباً ببقاع أخرى وأراضٍ أخرى وشعوب أخرى، تدافع عن حقوق الإنسان، بينما تبيد وتسحق الإنسان ذاته!!!
السياسة، ذاك السلوك القديم، ذا الاسم الجديد هى ذاتها البدائية والهمجية القديمة، ذات الحروب والغارات والقسوة والقتل والدماء والسبى والتشريد والتعذيب والقهر واغتصاب الأوطان وذُل الإنسان، التاريخ يعيد نفسه، لكنه بثوب أنيق، ثوب الساسة والسياسيين.
والآن هل يحق لغير المختص الحديث بشأنها؟!؟.. ولمَ لا؟! وهى تخصنا جميعاً بتطوراتها وتداخلاتها ونتائجها وتؤثر على حياتنا ومستقبلنا، خصوصاً أنها فى أغلب الأحيان لا تُعلِن عن خباياها أو نواياها أو دوافعها الحقيقية، مما يجعل ذهن المهتم بها منشغلاً بمحاولة التفسير والفهم. السياسة شأن وعلم عام يجمع علوماً شتى، إذاً فالسياسة للجميع!!