لقد زاد الإقبال على عمليات تحديد نوع الجنين بشكل واضح فى الآونة الأخيرة، كما تعددت الطرق التى بات الأطباء يعتمدونها من أجل توفير تلك «الخدمة»، للكثير من الأسر التى تريد أن تلعب دوراً فى تحديد سمات نسلها البيولوجية.
يشير هذا التطور إلى تصاعد كبير للدور الذى باتت تلعبه الثورة العلمية البيولوجية من جانب، وإلى تقاطع تلك الثورة مع مفاهيم إيمانية واجتماعية وإنسانية عميقة من جانب آخر؛ وهو أمر يمكن أن يثير إشكالات أكبر مما نتوقع.
إن ميل الأسر، فى مجتمعات مختلفة، إلى تفضيل جنس معين لنسلها أمر له العديد من التداعيات السلبية بطبيعة الحال، لكن الأخطر من ذلك هو قدرة هذه الأسر على تحقيق هدفها بسهولة.
سيعنى هذا لاحقاً اختلالاً سكانياً، واجتماعياً، وإنسانياً، وثقافياً، خاصة أن معظم الطلب، فى المجتمعات التقليدية الأقل نمواً، يتجه نحو جنس معين: الذكر.
ليست تلك أسوأ التداعيات الحضارية والإنسانية لتفجر «الثورة البيولوجية»، فثمة ما هو أكثر خطورة وإزعاجاً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالوسائل التى تُمكّن تلك الأسر الراغبة فى التحكم بنسلها من «التلاعب» فى المورثات الجينية للوافدين الجدد من أبناء العائلة.
الأمر أشبه ما يكون بفنى محترف يجلس خلف لوحة مفاتيح، مستخدماً كل إمكانيات برنامج «فوتوشوب»، التى تتضمن القص، واللصق، والحذف، والإزالة، والتظليل، والتلوين، وإضافة المكونات والكتل البصرية، ليحصل فى النهاية على صورة من تأليفه وابتكاره، تختلف اختلافاً جذرياً عن الصورة المبدئية التى بدأ عمله عليها.. والأهم من ذلك، بطبيعة الحال، أنها تعكس تصوراً عما يجب أن تكون عليه الصورة الجديدة لا يخدم إلا مصالح صاحبه.
نحن لا نتحدث هنا عن إنتاج الصور والأفلام، ولكننا نتحدث عن إنتاج «هوية الإنسان وسماته الوراثية».
يذهب عالم المستقبليات الأمريكى ألفن توفلر Alvin Toeffler، فى كتابه «الموجة الثالثة»، إلى أن العالم شهد ثلاث ثورات رئيسية؛ الأولى هى الثورة الزراعية، والثانية هى الثورة الصناعية، والثالثة ثورة تكنولوجية، لكن هذا الكتاب صدر فى العام 1984، وربما لو أمكن لتوفلر إصدار طبعة جديدة منه اليوم لأضاف ثورة رابعة جديدة، وهى بالتأكيد ليست سوى «الثورة البيولوجية».
لقد تطور «علم الجينوم» تطوراً كبيراً فى العقدين الأخيرين، وهو أحد فروع علم الوراثة، حيث يهتم بدراسة المادة الوراثية فى أجسام الكائنات الحية. ويتضمن المجال العلمى لتلك الدراسة جهوداً مكثفة لتحديد تسلسل الحمض النووى بشكل كامل ورسم الخرائط الدقيقة للجينوم.
كما تشمل تلك الدراسة عدداً من الظواهر التى تحدث داخل الجينوم مثل الهجين Heterosis، وغيرها من التفاعلات بين المواضع المختلفة داخل الجينوم، الذى يمثل مجموع الجينات الخاصة بكائن الفرد بأكلمه. وبالتالى، فعلم الجينوم هو دراسة الجينات فى الخلية، أو النسيج، على مستوى الحمض النووى «دى إن إيه» DNA.
فى شهر أبريل من العام 2003، اكتملت دراسات مشروع الجينوم البشرى، بالولايات المتحدة الأمريكية، وتوافرت معلومات ثمينة بشأن تسلسل القواعد فى «الحمض الريبى» المعروف بـ«دى إن إيه» DNA فى صبغيات الإنسان، التى تشكل نحو 35000 مورثة فى خلاياه.
وقد خلص هذا المشروع إلى أن نحو 99.9% من المعلومات المتوافرة فى المورثات متماثلة عند جميع الناس، وأن الفروق الصغيرة المتبقية هى المفتاح المميز لشخصية الإنسان ووظائف جسمه. ومع أن هذه الفروق لا تسبب عادة مشكلات تتعلق بنمو الفرد وتطوره، أو بوظائفه الحيوية، فإنها قد تؤثر فى استعداده للتعرض لمشكلات صحية معينة، وقد تحدد كيفية تفاعل الجسم مع عوامل مختلفة.
وكان من جملة فوائد هذا المشروع تطور الدراسات الخاصة بالعلاج الجينومى، التى تبحث فى تحديد التداخلات Interactions بين المورثات والعقاقير الدوائية. وبقدر ما يمنح هذا الاكتشاف البشرية الأمل العريض فى التعرف الدقيق إلى الصيغ الوراثية للمرضى، وبالتالى التدخل السريع السلس لعلاجهم عبر التأثير فى التركيب الجينى المعطوب، بقدر ما يفتح الأبواب الواسعة أمام فرص استخدام هذا التطور كأداة للتحكم فى هوية البشر.
فى 20 ديسمبر 2015، كان العالم الكبير، الحاصل على جائزة نوبل، أحمد زويل يتحدث فى منتدى علمى، بالقاهرة، حين قال إن «الاكتشافات الجينية سيكون لها تأثير كبير فى الحروب المقبلة».
لقد حصل زويل على جائزة نوبل جراء اكتشافاته العلمية المبهرة، خصوصاً ما يتعلق بـ«الفيمتوثانية»، كما كرس جزءاً كبيراً من اهتماماته العلمية لموضوع «النانو تكنولوجى»، الذى ساعده كثيراً فى بعض الأبحاث التى أجراها فى معمله الكبير فى جامعة «كالتيك» الأمريكية بخصوص المسائل الجينية.
ومن خلال «مدينة زويل للعلوم» التى أنشأها فى القاهرة، استطاع أن يطور بعض الأبحاث الجينية خصوصاً فى ما يتعلق بالتركيب الجينى لبعض الحيوانات، وقد انطلق فى استشرافه هذا من قاعدة علمية عريضة وثرية. إذا صح ما توقعه زويل، فإن ذلك يعنى أنه سيكون بمقدور بعض الدول أن تمتلك وسائل لتغيير جينات أعدائها، عبر امتلاكها القدرة على التلاعب فى الخرائط الجينية للشعوب المستهدفة، بما يفقدها القدرة على الدفاع.
واستناداً إلى ذلك رأى هذا العالم أن الحروب المقبلة قد لا تكون فى حاجة إلى استخدام الدبابات والطائرات بقدر حاجتها إلى استخدام تلك الوسائل العلمية. لقد نشأ علم جديد اتخذ اسم «علم اجتماع الجينوم»، وهو ينطلق من فكرة أن التحكم فى الجينات يعنى القدرة على تغيير مفردات الحمض النووى للإنسان، وهو الشىء الذى يحدد من نكون، وكيف نُعرَف بين الناس بما نحن عليه.
سيكون بمقدور علماء العلاج الجينى أن «يحسنوا النسل»، عبر إزالة الجينات المورثة للأمراض والأعطاب، وأن يؤثروا فى جينات أخرى لتكسب الشخص الخاضع للعلاج سمات «بيولوجية» جديدة، وهى سمات ستكون لاحقاً مورثات ثقافية وذهنية واجتماعية.
يقول العالم «إدوارد ويلسون» إن «المكونات الوراثية تحكم الثقافة»، وبالتالى فإن التعديلات التى سيتم إجراؤها يمكن أن تطال السمات البيولوجية للأجيال المقبلة، وبالتالى ستطال سماتها الثقافية والاجتماعية. يعنى هذا ببساطة أن النجاحات المذهلة التى يحققها الباحثون فى مجال «الجينوم» ستقود البشرية إلى إمكانية تحديد السمات البيولوجية والاجتماعية والثقافية والذهنية لأجيال جديدة.
ستقوم أجهزة الاستخبارات النافذة باستخدام هذا التطور فى الحروب، لكى تحول أعداءها إلى شعوب عاطلة لا تصلح للدفاع أو الهجوم، وستقوم المختبرات الربحية بتصميم ذرية تحمل سمات التفوق كما يراها دافعو الأموال، ليحصلوا على نسل متفوق، يتحلى بالسمات الأعلى من وجهة نظرهم.
وفى جميع الأحوال، فإن «النسل المتفوق» الذى سندفع لنحصل عليه لن يكون سوى «صورة الغالب» فى عالمنا، الذى قد يكون عدواً لنا، وهى صورة لا تشبهنا، ولا تعكس مواريثنا وخصوصيتنا.
وكما بات الضعفاء مستلَبين لثقافة الأقوى والأذكى والأعلى فى عالم «التطور اللامتكافئ»، فإنهم قد يصبحون أيضاً مستلَبين لتركيبه الجينى وصورته البيولوجية والذهنية، وهو أمر خطير، لم تدركه أسوأ كوابيسنا على مدى آلاف السنين.