شهدت الساحة المصرية خلال الأيام القليلة الماضية حالة من الجدل الشديد حول مضمون ومغزى الموقف المصرى من تداعيات الأزمة السورية فى أعقاب العدوان الأمريكى الأخير على قاعدة «الشعيرات» العسكرية، ومدى اتساق هذا الموقف من عدمه مع أطروحات مصرية سابقة، وأيضاً مع ثوابت الأمن القومى العربى التى تحرص مصر على التمسك بها، بغضّ النظر عن أية خلافات طارئة مع بعض الأنظمة العربية.
لقد تضمّن بيان الخارجية المصرية الذى صدر معبراً عن الموقف المصرى فى أعقاب العدوان الأمريكى ثلاث نقاط مهمة، شكلت الرؤية وأكدت الثوابت، وهى:
1- رفض العدوان الأمريكى من خلال ما تضمّنه البيان من التأكيد على أهمية تجنيب سوريا ومنطقة الشرق الأوسط مخاطر تصعيد الأزمة حفاظاً على سلامة شعوبها.
2- سرعة العمل على إنهاء الصراع العسكرى حفاظاً على أرواح الشعب السورى الشقيق ومقدّراته، وذلك من خلال التزام كافة الأطراف السورية بالوقف الفورى لإطلاق النار والعودة إلى مائدة المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة.
3- دعوة الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية إلى التحرك الفعال على أساس مقررات الشرعية الدولية، ومحاولة احتواء الصراع والتوصل إلى حل شامل ونهائى للأزمة السورية.
والملاحظ هنا أن النقاط الثلاث التى تضمّنها البيان تعكس رفضاً لاستخدام القوة، وضرورة اللجوء للخيار السلمى، والتأكيد على حماية الشعب السورى ومؤسساته، ورفض للتحرك خارج إطار الشرعية الدولية، والمطالبة بالتوصل إلى حل نهائى للأزمة.
صحيح أن الأوضاع الداخلية فى مصر، والأوضاع على الساحة العربية، وطبيعة العلاقة المصرية- الأمريكية كانت وراء «الحذر» الذى كُتبت به لغة البيان، إلا أن تحليل المضمون يؤكد أن مصر لا تزال على مواقفها المبدئية الثابتة من الأزمة السورية، وهى مواقف عبّرت عنها أكثر من مرة، وسبّبت لها أزمات إقليمية ودولية عديدة.
لقد كانت مصر فى حقبتها الجديدة، وتحديداً منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى دفة الحكم فى البلاد، واعية بخطورة الموقف، وحجم المؤامرة على سوريا، وهو الموقف الذى عبّر عنه الرئيس السيسى تعبيراً واضحاً وصريحاً فى خطاب أمام مجلس الأمن فى 21 سبتمبر من عام 2016، وهو الموقف الذى أكد فيه رؤية مصر للأزمة من خلال ثلاث نقاط أساسية هى:
أولاً- أن القراءة الموضوعية للموقف الدولى تقول إننا مستغرقون فى معالجة العرض وليس المرض، مستغرقون فى البحث عن التوصل لترتيبات فوقية لوقف إطلاق النار فى حين أننا لم نحقق أى تقدم فى جوهر المشكلة وهو غياب الحل السياسى العادل والشامل الذى يلبى التطلعات المشروعة للشعب السورى الشقيق ويحفظ وحدة بلاده، وسلامتها الإقليمية، ويحافظ على مؤسساتها ويحول دون سقوطها فى هوة الفوضى التى لن تستفيد منها إلا المنظمات الإرهابية.
ثانياً- أن الخطوط العامة لأى حل سياسى كبير فى سوريا لا يوجد عليها خلاف كبير، غير أن ترجمة هذه الخطوط العامة على أرض الواقع تقتضى إعلاء مبدأ الوحدة والسلامة الإقليمية لهذا البلد الشقيق والمساواة بين كل مواطنيه وممثلى مكوناته الاجتماعية وأطيافه السياسية المختلفة، مع استثناء التنظيمات الإرهابية التى لا يمكن أن يكون لها مكان فى سوريا المستقبل.
ثالثاً- أن كل من يراهن على خيار الحسم العسكرى الذى يفضى إلى غلبة فريق واحد فى سوريا سيكون خاسراً، كما أن كل من يراهن على أن يكون للتنظيمات الإرهابية دور فى مستقبل سوريا سيكون واهماً، لأن هذه التنظيمات تسعى إلى تقويض أسس الدولة الوطنية فى كل المشرق العربى.
لقد حدد الرئيس السيسى انطلاقاً من هذه الثوابت رؤية مصرية للحل فى سوريا تقوم على ركيزتين أساسيتين:
- الحفاظ على كيان ووحدة الدولة السورية والحيلولة دون انهيار مؤسساتها.
- دعم التطلعات المشروعة للشعب السورى فى إعادة بناء دولته عبر التوصل لصيغة حل سياسى تكون مُرضية لجميع السوريين ومعبرة عنهم وتوفر البيئة المناسبة لجهود إعادة الإعمار.
إن المتابع للمواقف المصرية من الأزمة طيلة الفترة الماضية يدرك أن ثوابت الموقف المصرى واحدة، وأن ترجمة المواقف فى المحافل الدولية والإقليمية تعبر عن مضمون هذه الثوابت.
لقد أدركت مصر منذ بداية الأزمة الأخيرة أن هناك محاولة لعرقلة الجهود التى تُبذل للتوصل لحل سياسى للأزمة السورية وأن هناك مؤشرات سبقت الحديث عن سيناريو الحرب الكيميائية فى «خان شيخون»، وأن هناك من يصر على إسقاط النظام السورى لإحداث مخطط الانهيار الأكبر وتفتيت ما تبقى من الدولة السورية وضرب مؤسساتها، خاصة بعد حدوث تحول إيجابى فى الموقف الأمريكى وبعض مواقف الدول الأوروبية الأخرى تجاه الأزمة.
لقد أعربت مصر، على لسان المتحدث باسم الخارجية المصرية، عن قلقها وعدم ارتياحها لاحتدام حالة الاستقطاب التى سادت داخل مجلس الأمن حول تداعيات قصف «خان شيخون»، وذلك قبل العدوان الأمريكى.
وأكد المتحدث باسم الخارجية ثوابت الموقف المصرى عندما سُئل عن موقف مصر من مشروع القرار المطروح أمام المجلس من قبَل أمريكا وبريطانيا وفرنسا بشأن التعامل مع هذه الأزمة، حيث قال: «إن مصر ستضع مصلحة الشعب السورى فى مقدمة أولوياتها حين تتعامل مع مشروعات القرارات التى يتم وضعها بشأن سوريا فى مجلس الأمن اتساقاً مع مبادئها ومواقفها المعلنة تجاه الأزمة السورية منذ اندلاعها».
لقد حذرت مصر فى أكثر من مناسبة من خطورة استمرار الأزمة وحدّة الاستقطاب التى بدت سائدة فى عالمنا العربى، على حساب الأمن القومى الذى بات يتعرض لمخاطر شتى، تصب جميعها فى مصلحة العدو الإسرائيلى ودول إقليمية أخرى فى مقدمتها تركيا وإيران. إن الذين يلعبون بالنار ويستهدفون الإبقاء على الأزمة وتداعياتها لحين إسقاط نظام الرئيس السورى لا ينظرون للأمور نظرة صحيحة، ويكررون نفس سيناريو الأزمة العراقية، حيث تسبّب هذا الموقف فى تزايد النفوذ الإيرانى فى العراق وغيرها، وكذلك الحال مع نجاح واشنطن فى تنفيذ مخطط التفتيت وإخراج الجيش العراقى من معادلة الأمن القومى العربى بشكل كبير. لقد رددوا فى ذلك الوقت أن الأمور ستعود إلى وضعها الطبيعى بعد اختفاء الرئيس صدام حسين. وبعد مرور 14 عاماً على غزو العراق وإسقاط النظام العراقى من حقنا أن نتساءل: أين هو الأمن؟ وأين هو الاستقرار؟ وأين هى الديمقراطية على أرض العراق؟
إن الذين يزعمون الآن أن حل الأزمة سيجد طريقه الطبيعى بعد غياب الرئيس بشار الأسد يتجاهلون الواقع فى سوريا، ويكررون ذات الأخطاء التى حدثت فى بلدان عربية عديدة، ذلك أن إسقاط بشار الأسد بالقوة لا يعنى فقط تدخلاً فى الشئون الداخلية السورية، وإنما فتح الطريق أمام الفوضى العارمة التى ستصب فى نهاية الأمر لصالح سيطرة الإرهابيين على الأوضاع فى سوريا. وإذا كانت مصر قد أكدت هذه الرؤية أكثر من مرة وحذرت من مخاطرها، فهى تنطلق من مبدأ إعلاء المصلحة القومية للأمة، ذلك أن انتصار الإرهاب على الدولة السورية يعنى أن المنطقة بأسرها ستكون عرضة للمخاطر، وأن دولاً عديدة مجاورة ستسقط فى هوة الفوضى التى تهدد كيانات الدول والأنظمة على السواء.