يبدو أن أى شىء من الممكن صناعته فى الصين، حتى الطوابير، فيقال إن الصينيين لو انتظموا دون حركة بجانب بعضهم فى طابور لالتفوا حول الكرة الأرضية.. وكلمة طابور أصلها بالتاء (تابور)، وهى تركية اشتُقت عن اللغة البولونية، وكان استخدامها اللغوى أقرب ما يكون لكلمتى «كتيبة» أو «فرقة» العربية المستخدمة فى الجيوش الآن. وانتقلت الكلمة للعربية فتم تفخيم التاء لتصبح طاء وأصبحت تدل على «الصف».
العرب لم يفخموا التاء فحسب، بل اهتموا بقيمة الطابور نفسه حتى صار عالمهم «طوابير طوابير»؛ ففى مصر عندنا طوابير كثيرة الأنواع، نبدأها صغاراً بطابور الصباح بالمدرسة، وهو ذكرى ليست سعيدة لمعظم الأطفال؛ فهو أمر مزعج ينتمى للثكنات العسكرية.. بعده تتوالى فى حياتنا طوابير أصعبها على قلوبنا، بعد طابور العيش، طوابير دفع الفواتير، حيث يجتمع الألم المادى (فى الجسم) مع التعب المادى (فى الجيب)، وهى على أية حال تجربة أفضل مما حدث لبعض المشاهير ممن بدأوا حياتهم بطوابير المعجبين وانتهوا بطوابير الدائنين.
وبلادنا بطبيعتها طاردة للبشر، ولذلك بعد أن يمر الشاب بطابور العرض فى الجيش، يفكر فى خوض غمار طوابير الجوازات فى المطار، حيث يستعد لوداع حياة واستقبال أخرى. وإذا لم يتمكن من الانخراط فى هذه المغامرة، فيمكن أن يضيع وقته فى طوابير المباريات، حيث يتوحد مع انتصارات وهمية تقيه شر الانكسار النفسى بفعل الهزائم الواقعية.. ونمر جميعنا، مرة على الأقل، بالمزيد من الطوابير؛ مثل طوابير البنزين والغاز والسولار، وهى شرسة لا تفرق بين عربى وأعجمى إلا بثمن اللتر، فكلما ارتفع السعر قل الطابور وزادت الراحة.. وفى بلداننا أيضاً طوابير ينتظم أصحابها للحصول على أحدث الهواتف، وهى طوابير صغيرة خادعة تُلهى البعض عن تذكر أن الأغلبية منتظمة بالفعل فى طوابير الخبز.
أما كبار السن، فبعد أن يمروا على كل ما سبق، يقفون فى طوابير الحصول على المعاش، وهى ظاهرة لا إنسانية ولا أخلاقية ويمكن حلها بسهولة عن طريق انتشال بضعة آلاف من الشباب من طوابير المقاهى، وتكليفهم بإيصال المعاشات للمنازل مقابل أجر رمزى أو فى إطار الخدمة العامة، وطوابير معاشات كبار السن لا تضاهيها إلا الطوابير فى المصالح الحكومية، أو طوابيرهم هم أنفسهم أثناء تقديم واجب العزاء فى بعضهم البعض!
والحياة ليست مسطحة، والطوابير ليست متوازية، لذلك تتقاطع فى نقاط ما وتفترق فى أخرى. فطابور الثوار تقاطع فى نقطة مع طابور اليمين الدينى المتشدد. وطابور أنصار كل نظام تقاطع فى نقاط مع نظيره للنظم السابقة، وهكذا.. وعموماً أسوأ ما يدور عندنا الآن هو اتهام من يقف فى طابور المعارضة بالانتماء للطابور الخامس. أما أعظم ما يحدث فى بلداننا بشكل دورى فهو طابور الانتخابات، حيث الدليل أن الشعب ما زال حياً.. فاحترسوا لأنه لن يموت.