ما زال الإصرار الجماعى يلاحقنا، والإنكار الشعبى يلازمنا، والخيال غير العلمى يلاصقنا. وما اعتبرناه عيباً و«مايصحش» ينخر فى عظامنا، ويسكت على كوارثنا، ويرى نفسه منزهاً عن ضلوعه فيما نحن فيه من مصيبة. فهو ينهش فيما تبقى من بنياننا، وينكر كل الإنكار أنه كان ولا يزال يحرض على قتلنا ويشجع على بث الفتنة بيننا ويسكت على دفعنا دفعاً نحو الهاوية. العيب الحقيقى هو الاستمرار فى تأليه ما ليس مؤلهاً، وتقديس ما ليس مقدساً، وفرض هالة من الحرمانية على ما ليس حراماً، وحالة من الحماية لمن لا يحتاج الحماية، وذلك لمجرد عدم الإحراج. لكن ميزان المنافع والأضرار يشير إلى أن مصير مصر ومآل المصريين أولى وأبدى. نقطة البداية ليست وليدة الأمس القريب، لكنها الحفيدة الشرعية لسنوات انسحاب الدولة فى عهود سابقة من مسئولياتها البديهية من رعاية المواطنين تعليمياً وصحياً وتربوياً وثقافياً وترفيهياً (والمقصود بالرعاية هنا ليس هيمنة أو سيطرة أو احتكاراً، بل رؤية وطنية ومخططات مستقبلية ترسم صورة واضحة للبلد والبلاد)، وعدم الاستسهال و«شراء الدماغ» بترك الساحة أمام جماعات ملتوية ومجموعات معوجة لتفرض هيمنتها وتبسط سيطرتها العقائدية على أجيال من المصريين، إن لم يكن عبر التجنيد وبهدف تنفيذ ما تيسر من عمليات إرهابية وما أمكن من مخططات تفخيخية، فمن أجل أن ترسخ دعائم قاعدة شعبية تدين لها بالولاء وتكون لها سنداً وظهيراً شعبياً متى حانت اللحظة الفارقة للقفز على كرسى الحكم. وقد بدا هذا واضحاً جلياً فى أعقاب رياح الربيع الشتوية وزعابيبها الخريفية التى هبّت على البلاد واعتبار الكثيرين وصول الجماعة وأبناء عمومتهم إلى سدة الحكم وصولاً لـ«الناس بتوع ربنا» لإرساء دعائم الخلافة. وكانت «الناس بتوع ربنا» وأبناء عمومتهم من صنوف الجماعات المتاجرة بالدم والدين قد استثمرت الكثير من المال والعتاد والعرق لبناء «مدارس إسلامية أمريكية دولية»، وفتحت صناديق نذور مساجدها ومنافذ تلقى تبرعات «تبرع يا أخى المسلم لبناء جامع»، إذ افتتحت مدارس ومعاهد أزهرية خاصة أقرب ما تكون إلى المجانية، وكلاهما بعيد كل البعد عن أية رقابة حكومية أو الانصياع لمصالح وطنية، بل الأدهى من ذلك أن كوادر فى الوزارات والهيئات باتت متضامنة متوائمة مع موديل الأسلمة الجديد، فباتت ظهيرها الرسمى إن صح التعبير. ولم يكن عجيباً غريباً أن نشهد بجاحة معلمة «ملتزمة» تقبل على قص شعر طفلة فى المرحلة الابتدائية لأنها لا تضع غطاء على شعرها، أو معلماً يعتدى جنسياً على تلميذات فيتم عقابه بنقله إلى مدرسة أخرى، أو وزير تربية وتعليم (سابقاً) لم يسمع من قبل عن اسم مسيحى يعد ضمن الأسماء الأكثر شيوعاً بين مسيحيى مصر فيتعثر فى نطقه فى مؤتمر صحفى لإعلان أسماء أوائل الثانوية العامة، أو قانوناً مفعلاً وإن كان غير منصوص عليه فى الكثير من المدارس الحكومية، حيث إجبار للتلميذات على ارتداء غطاء شعر (طرحة) حتى وإن كن غير محجبات، وقائمة طويلة من عمليات التديين التى رجحت كفة المظهر على حساب المضمون. وقد نجحت هذه الجماعات فى الدفع بكوادرها كل بحسب مؤهلاته وخلفيته لاستهداف فئة وطبقة بعينها. فمن هذه الكوادر المولودة فى كنف الجماعات التى تدين لها بكل الولاء من يتحدث اللغات الأجنبية بطلاقة وحصل على شهادات جامعية فوق الممتازة من يعمل «إخصائياً اجتماعياً» أو «نفسياً» أو «تربوياً» أو معلماً فى مدارس خمس نجوم تملكها شخصيات مقربة أو منتمية لهذا التيار، ولكن تحت غطاء «إنترناشيونال»، حيث المصروفات بالعملات الأجنبية أو ما يوازيها محلياً، ولا تخاطب سوى سكان قمة الهرم الطبقى، فيتقرب الإخصائى أو المعلم من الطلاب، ويندمج فى تفاصيل حياتهم الكبيرة والصغيرة، ناشراً سموم الجماعة ولكن بالإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية أو البريطانية المحببة إلى نفوس الصغار، وذلك عبر استشارة نفسية هنا أو نصيحة اجتماعية هناك. وتكون النتيجة تأهيل أبناء وبنات الطبقة المخملية لتركيبة ذهنية تعتبر القبطى المصرى عدواً والمسيحى الغربى كافراً، لكنه الكفر اللذيذ، إذ تنظم المدرسة رحلات إلى بلاد الكفار الذين يسمحون للآخرين بالعيش فى بلادهم والاستفادة من علمهم واستغلال مواردهم، والاستمتاع بما شيدوا من حضارة وحداثة ونظام وجمال ونظافة لأن الغاية تبرر الوسيلة ولكن بعقلية متأسلمة. ومنهم من تؤهله نشأته القروية وموقعه فى قاعدة الهرم الطبقى من بث سموم الجماعة، ولكن بأسلوب يناسب البسطاء. وما علينا سوى متابعة كينونة الأسئلة والفتاوى التى ترد من هؤلاء والتى يعشقها مشايخهم فيصولون ويجولون فى أرجائها ويتعمقون فى تفاصيلها ويتلذذون بالخوض فى غمارها. وهل يمكن معاشرة الزوجة فى نهار رمضان؟ وله فى الإمكان الزواج بأخرى لأن الأولى لا تشبع الرغبات؟ وما حكم النظر بشهوة إلى زوجة الأخ؟ وهل يمكن للرجل المسن القادر على ممارسة العلاقة الحميمة أن يتزوج بطفلة؟ وهل يجوز الاستماع للموسيقى؟ وهل فى الإمكان أن ترتدى المرأة لوناً غير الأسود والبنى؟ وبالطبع ما حكم تهنئة المسيحى بعيده؟ وهل أتجاهل الجار المسيحى أم ألقى عليه السلام؟ والقائمة طويلة ومعروفة. وبالطبع تأتى الردود محللة للنواحى الشهوية، ومحرمة للجوانب الإنسانية، فتهنئة المسيحى محرمة، وتناول الأكل فى بيته مكروه، ومصادقة الأبناء لأبنائه غير مسموح. ويبدو أن الهدف المتبع على مدى سنوات كان غرس قيم ومبادئ وقواعد لا تهدف إلا إلى التفرقة المظهرية بين المسلم الكامل الطاهر الذاهب إلى الجنة لا محالة عن غيره، أما ما عدا المظاهر من أخلاق وتصرفات وسلوكيات فلا تهم. وتطورت المنظومة القيمية حتى تحولت البلاد من حاضنة للجنسيات والإثنيات والثقافات إلى طاردة لها، ومعتنقة للفكر الواحد والثقافة الواحدة وبالطبع الدين الواحد. هذه المنظومة تبدأ بتحريم التهنئة، وتنتهى بتفجير الكنيسة، وتمر بمناهج رسمية ومشايخ رافضة للتطهير.