قامت ثورة الضباط الأحرار فى 23 يوليو 52، للقضاء على الإقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطنى قوى، وتحقيق العدالة الاجتماعية.. هذا ما درسناه فى كتب التاريخ عندما كنا صغاراً.
اختزل الشعب العدالة الاجتماعية فى القطاع العام والخمسة أفدنة، وضحى بالديمقرطية مقابل قيادة مصر لحركات التحرر الوطنى فى العالم العربى، وأخذته «كاريزما ناصر» إلى حلم مبهر اختصر فيه الوطن فى صورة «الزعيم» وصك تعبير «الديكتاتور العادل»، وعلق طموحاته على «الحلة العسكرية».. وحتى حين انهزم جيشه فى 67 سمّى الهزيمة «نكسة» ولم يبك احتلال أرضه أو تهجير أهلها!.
عرف الشعب -آنذاك- كيف يغزو العالم العربى بأشعار «جاهين» وصوت «الست» أو «حليم».. عرف أهمية الإعلام بإذاعة «صوت العرب».. وتوحد فى تنظيم سياسى «الاتحاد الاشتراكى».. لم يتمرد على تأميم الحياة السياسية بل كان مزهواً بتأميم «قناة السويس» وبناء «السد العالى» واقتصاده القائم على الذهب الأبيض: «القطن».
ثم جاء الرئيس المؤمن «السادات»، (مرتدياً وشاح القضاء وممسكاً بعصا المرشال)، فانقلب على رجال «ناصر»، وغازل الشعب بالمنابر السياسية، (تحولت إلى أحزاب فيما بعد)، وتحولت «القوى الناعمة» إلى أداة لتشويه الناصرية ومخابرات «صلاح نصر».. وبعد انتصاره فى 73 ذهب إلى «كامب ديفيد» ولقب نفسه بـ«بطل الحرب والسلام»، فانقسم الشعب حول «سلامه».. ودبت الروح فى الحياة السياسية.
بدون ترتيب للأحداث، عادت سيطرة «رأس المال على الحكم» بالمصاهرة «عثمان أحمد عثمان» نموذجاً، وأطل الفساد بوجهه القبيح (تم اتهام عصمت السادات، الشقيق الأصغر للرئيس، وأبنائه، بقضايا فساد، ثم برأته المحكمة).
قضى «السادات» على أوهام «العدالة» بسياسة «الانفتاح» الأعمى، وأطلق جماعات «الإسلام السياسى» على اليسار، أصبحت السيدة الأولى «جيهان السادات» شريكة فى الحكم.. ثم اعتقل «السادات» كل رموز مصر فى سبتمبر 81، أى «خريف الغضب».
وفى 6 أكتوبر من نفس العام سقط «السادات» شهيداً بيد أبنائه من رجال القوات المسلحة.. فى أكبر استعراض للقوى الإرهابية فى مصر.
لم تكن المأساة هى أن كل رئيس يسلمنا لـ«نائبه» بالدستور، بل كانت فى أن «السادات» جمع بين «الديكتاتورية والدين» فى حزمة واحدة بالدستور، حين تغير الدستور عام ١٩٨٠، باستفتاء مزور، وأطلق مدد انتخاب رئيس الجمهورية فى دستور ١٩٧١ مدى الحياة.. ونص على أن: «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع»، بدلاً من كونها «مصدراً رئيسياً» بإضافة الألف واللام!.
على خلفية من الدم جاء صاحب أول ضربة جوية «مبارك» ومعه «الهانم» و«الوريث»، بدأ «مبارك» عهده بمصالحة سياسية فأفرج عن المعتقلين السياسيين.. وعلى نفس خطى سلفه، استعاد «طابا» بالتحكيم الدولى، وأنشأ العديد من المدن الصناعية والسياحية، ووزع أراضى مصر على شلة «أمانة السياسات»، وصدر إلى الوزارة شباب رجال الأعمال ليصبح «جمال» فى سياق طبيعى.
ثلاثون عاماً من الطوارئ حكمنا بها «مبارك»، تحولت خلالها المعارضة إلى أحزاب كرتونية، و«الفتنة الطائفية» أصبحت حمماً بركانية، قويت شوكة الإرهاب، وعرفنا نظريات «الاستحلال» و«التكفير».. و«الهانم» تحكم البلاد من الباطن، و«جمال» يتحكم فى الاقتصاد.
الحريات تتناقص وحقوق الإنسان تضيع والإقطاع الجديد يتوحش، و«الخمسة أفدنة» عادت للإقطاعيين بأحكام قضائية.. «مبارك» يشيخ، والدستور يحتاج إلى قُبلة الحياة فضغوط «الخارج» تتزايد: يُستبدل بالاستفتاء انتخابات هزلية.. عفواً رئاسية!.. ثم تنفجر البلاد مثل كنيسة «القديسين»: (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).
فاكر لما ثُرت؟.. قطعاً لم تنتظر «مكتب الإرشاد» وعصابته بدلاً من «الوريث»؟.
لم تتوقع أن تحكمنا ميليشيات «أحمد المغير» وإخوانه بدلاً من «حبيب العادلى»، ولا كنت تستبدل «عز» بـ«الشاطر».. ولا تقايض التنمية بـ«الجهاد».. ولا تسعى لـ«دولة خلافة» خليفتها فى «قطر» ومندوبوها من «حماس وحزب الله».. ولم تشأ أن تنصب «أراجوز» ينفرد بالدستور لاحتكار كل السلطات وكأنه إله؟!.
مالها الأخونة وتطبيق الشريعة وفرض الجزية على الأقباط؟.. حزين من الاعتداء على الكاتدرائية أم من طوابير البنزين وأزمة الكهرباء.. طيب ثور على بركة الله.
جاءتك 30 يونيو، ووقفت فى طوابير الاستفتاء والانتخابات مرة ثانية: مرحلة انتقالية، ودستور جديد، انتخابات نزيهة، ومدد رئاسية محددة، الرئيس من خلفية عسكرية والهانم «هانم بجد» لا تتدخل فى الحكم ولا تظهر إلا نادراً.. عندك اعتراض على «السيسى».. أم تفتش عن الديكتاتور العادل؟.
إنه قائد شفاف، ملفه أبيض، العالم الآن يلتف حوله ويبجله، غضبان من الحكومة؟ ناقم على السياسات الاقتصادية؟ (مش لاقى تاكل)؟.. انظر إلى الجانب المشرق «العاصمة الإدارية الجديدة مثلاً».
تبحث عن ديمقراطية التظاهر: «تيران وصنافير مصرية»، عن «الإصلاح السياسى».. أم عن حرية تخريب الكنائس: «عايز أختى»؟.
جاءتك الطوارئ فاحترس وابتلع لسانك!.
ليس أمامك إلا إعلام: «اكفل أسرة إرهابى» أو «أعدم الانتحارى».. وبرلمان «الحفاظ على الدولة فوق الدستور والقانون»، وحكومة «لا تكافل ولا كرامة».. وخطاب «الدين للأزهر والتطرف للجميع»!.
رجال «مبارك» يتصدرون المشهد الآن، يتغلغلون فى مفاصل الدولة، لم يتبق إلا عودة «عزمى، سرور، الشريف».. فلماذا ثُرت؟.
ما الذى جنيته من الثورة حتى الآن؟.. اقرأ المقال من البداية ربما تفهم.