فى بداية عصر التنوير بأوروبا، ونهاية عصور الظلام، حُكم على جاليليو المتدين والمحمى من صديقه البابا آنذاك بتهمة الهرطقة، ثار عليه الجميع، مطالبين بسجنه، وخُفّف الحكم إلى الإقامة الجبرية، فمُنعت كتبه وأفكاره، لأنها -كما زعموا- تخالف ما جاء بالكتب المقدسة، وبالدراسة وتحكيم العلم، ثبتت صحة نظرية جاليليو بأن الشمس هى محور الكون، وبعد سنوات طوال رُدّ إليه اعتباره. نظرية جاليليو الدقيقة اعتُبرت (هرطقة) بسبب الجهل والهلع، وكلاهما مرتبط بالآخر.
إن استخدام العقل وحُسن الإدراك والاستماع إلى الآخر يعطى الإنسان ثقة وبُعْداً مختلفاً، ليطرح آراءه بقوة، ويستقبل آراء الغير برحابة صدر ورغبة فى التواصل الحقيقى، وبعودة إلى التاريخ نرى أن أعظم الأفكار وأهمها، وهى ما حمله الرسل والأنبياء، قد قوبلت أول الأمر بالتكذيب والتهديد والمحاربة، هكذا شأن الأفكار الجديدة والمختلفة، تبدأ غريبة، مُهاجَمَة، ليثور عليها الهوام والعوام، ثم يكون الانتصار للأصلح والأبقى والأصح، فيمضى الجهل مع أهله إلى هوامش التاريخ والبشرية.. لكن لكى ينتصر الصواب يجب أن يعرض الخطأ كما يعرض الصواب، ومن ثم يحدث الاختلاف.
يوصلنا هذا بدوره إلى النزاع بين الحريات والتعبير عنها فى مقابل الحفاظ على الثوابت والموروثات، حتى إن كانت هذه الموروثات تحتاج إلى المراجعة أو التصحيح، أو حتى التعطيل فى بعض الحالات!! ذاك النزاع أعتقد أنه إشكالية مختلقَة، لا وجود لها بالفكر الإنسانى السليم وبمنظومة تطور الكون بشكل سلسل وصحيح، إذ إن المعرفة تأتى بالاختلاف والدراسة والمناقشة، ليتطور هذا الكون وتُحل مشكلاته ونزاعاته.
لهذا أرى أن جميع دوافع وأسباب تقييد الفكر الإنسانى وحرية تعبيره، هى إما بسبب الجهل، وإما بدافع براجماتى بحت (سياسى على وجه الخصوص)، فما دفع «قريش» لمعاداة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، هو خوف كبارها من فقدانهم حظوتهم ومكانتهم من هذا الدين الجديد، وهو ما حدث ذاته مع جميع أنبياء الله، ثانياً يأتى الخوف من المجهول والجديد (الجهل بالشىء)، الذى جعلهم يصادرون دعوات الإيمان، ومحاربة مجرد الاستماع إلى الداعين إليه.
هذا شأن قمع الأفكار على مستوى العلوم والعقائد، الذى لا يفعل إلا تعطيل وأذى البشرية، فبدلاً من أن يتآلف البشر من خلال النقاشات وتبادل الآراء والمفاهيم لإكمال الصورة، ووضوحها، لحل أى خلاف أو أزمة أو عدم وضوح رؤى، ولتطوير المعارف والعلوم والمعانى، تحدث المصادرة على رأى وفكر الآخر، مصحوبة بعلو الصوت والتكذيب والاتهام والمزايدة والتهكم والمغالاة، ثم يصل الأمر إلى ذروته بإعلان الحروب الفكرية أو القتالية.
لو بحثت عن أى عنف أو ظلم أو تطرف أو إرهاب أو حمق، ستجده نتاج حوار فاشل، أو حوارٍ لم يحدث من الأساس، فلو تحاورنا، لالتقينا وتجاورنا، ولو التزمنا بحقوق الغير فى الاختلاف لحفظ لنا حقنا كذلك. العقل صوته مهذب خفيض، والجهل ناعق زاعق. المحبة صوتها رحيم مقنع، قريب إلى القلب والفكر، أما الشر والغل والحقد فصوتها من قبح صوت الشيطان.
الحكمة يعطيها الله من يشاء من عباده، ويحصل عليها هادئ النفس، مطمئن البال، ومن استقرت بعقله الأفكار والعلوم والمعرفة، ومن ملأت قلبه الرحمة والمحبة.
فلو تحاور العالم حواراً عاقلاً متزناً ما كانت الحروب لتصل اليوم إلى اصطفاف الأساطيل الأمريكية الكورية مهدّدة العالم بالفناء وعبث الأقوياء!! ولو تحاورنا بعقل فى وطننا اليوم، ما التبس علينا تفسير وتعليل ما نشتكى منه على جميع الأصعدة!! فالحوار والنقاش البنّاء يستحيل أن يُفسِد للود قضية.