دعونا نتحدث بهدوء ونطرح أفكاراً ليست بالجديدة ولكننا تناسيناها فى ظل صخب التضليل وتكفير التفكير. فعلاقة مصر بالرسالات السماوية واحتواؤها لها يا سادة من عمر البشرية.. منذ النبى إدريس ونوح وابنه الذى يُقال إن اسم مصر مشتق من اسمه «مصرايم». وإبراهيم الذى جاء بلادى فأهداه ملكها هاجر القبطية التى جاء من رحمها إسماعيل وجاء من نسله العرب. ومن هنا كانت هاجر أم العرب وكانت مصر أم الدنيا وإن تناسوا. وجاءنا يوسف، أجمل خلق الله، الابن المفضل لأبيه يعقوب، فبهر نساءها بجماله فقطعن أيديهن وسُجن ليتناسى القوم فضيحة شغف امرأة العزيز به، وفسر الأحلام للفقير والملك فكان له خزائن الأرض فى بلادى، نظمها فحمى العالم كله لا مصر وحدها من مجاعة.
وعلى أرضنا وُلد موسى وكان تجلى الله له فى الوادى المقدس طوى. وإلى أرضنا جاء المسيح عيسى وأمه مريم البتول فكان لهما الأمان والنجاة، ومن أرضنا ذهبت للمصطفى الهادى ماريا القبطية فكانت له زوجاً وأُمّاً لولده فكانت قولته «استوصوا بقبطها...». ومن حكمة بلادى وعمق الدين فى جذورها كانت حكمة المصريين فى التعايش فلخصوها فى عبارة شعبية يتناساها الكثيرون رغم أنها مفتاح الحياة: «موسى نبى وعيسى نبى ومحمد نبى وكل من له نبى يصلى عليه». وهكذا يا سادة لخصنا علاقتنا بأنبياء الله ورسالاته فى بلاغة فكرية وتلخيص لغوى لا أبدع ولا أرقى منه. فالعبارة فيها اعتراف بأنبياء الله وتساويهم فى المنزلة، وفيها احترام للآخر وعقيدته وتقديس لها، وفيها تعايش رائع لا علاقة له بتسييس الدين ولا المتاجرة به. لخصها المصريون منذ سنوات بعيدة رافضين التمييز الممارَس عليهم باسم الدين من قبل حكام لم يفهموا طبيعة الدين على تلك الأرض التى لم يفلح فيها منطق المحتل، أيًّا كانت جنسيته: «فرق تسد»، حينما أراد ضرب تلك الكتلة الصلبة للتكوين المصرى ولم يجد غير الدين وسيلة.
فتقرير اللورد كرومر لحكومة بلاده فى عشرينات القرن الماضى قالها صريحة «لا تعرف المسيحى من المسلم فى مصر إلا عندما يتوجه كل منهما لدار عبادته وتلك هى المشكلة». ولذا كانت «الإخوان المسلمين» بتمويل إنجليزى عام 1928 لتكون بذرة الخلاف والتقسيم. وكررها نيكسون والأمريكان فى أعقاب هزيمة يونيو 1967 حينما درسوا أسباب عدم انهيار الدولة بعد تلك الضربة الموجعة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، فكانت ذات الكتلة الصلبة من أهم الأسباب الداعمة لمصر. فكان اللعب يا سادة وقد بدأ من الدستور للأسف حينما قلنا فيه إننا دولة إسلامية مصدر التشريع لدينا الشريعة الإسلامية. والسؤال ألم نكن دولة مسلمة قبل دستور 71؟ ألم نعرف الإسلام قبلها؟ ولِمَ هذا الخلط المزعج بين الدين والسياسة والقانون؟ وهل أعلن الرسول فى تأسيس دولته بالمدينة أنها دولة إسلامية؟ ولذا تاهت الأفكار وعلا صوت الغلو الدينى دون سند وهبّت علينا رياح البداوة الوهابية المثقلة بخطط برنارد لويس وبريجينيسكى مستشار الأمن القومى الأمريكى لتفتيت المنطقة تحت اسم الدين وطوائفه المتعددة.
نعم، هبّت علينا على مدى ما يزيد على أربعين عاماً رياح التغريب والتجهيل والتغييب ولم نسد الباب فى وجهها بتعليم رفيع المستوى أو ثقافة تسمو بالضمائر والنفوس والعقول أو فن يسقط أقنعة الجهالة أو تربية تقاوم المؤامرة. فتحنا الباب لكل الريح المصرة على اقتلاعنا من هويتنا وتفريقنا وتمزيق عقيدة التعايش فينا. ورغم ذلك تفوقت الفطرة فينا حينما استولى تجار الدين على بلادنا فتذكرنا هوية تشابكت لحمايتها الأيدى ليتفاجأ عدونا بموقفنا المثبت على الحجر تجسده منطقة مجمع الأديان فى ترنيمة حجرية تضم مسجد عمرو وكنيسة معلقة ومعبداً يهودياً.
(صلوا على الأنبيا يا مصريين وافتكروا إنكم من تدحرون بفطرتكم أنفاس الشيطان فقاوموه).