بعد الإعلان عن تورط عدد من أبناء قنا فى الأحداث الإرهابية الأخيرة، راحت بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى توجه الاتهامات إلى عدة ملايين يقطنون هذه المحافظة، وتتهمهم بأنهم أصبحوا يناصبون المجتمع العداء، ويتبنون الأفكار «التكفيرية»، بل وتمادى البعض منهم بالقول: «إن ولاية داعشية جديدة فى طريقها إلى جنوب الصعيد». وقد كان لقبيلة «الأشراف» العريقة، صاحبة الدور الوطنى فى كل مراحل التاريخ نصيبها الأكبر من هذه الاتهامات الزائفة، لا لشىء سوى لأن عدداً من أبنائها وُجهت إليهم اتهامات بالتورط فى هذه الأحداث، رغم أن غالبية الأسماء التى تم ذكرها لم تثبت إدانتها قضائياً حتى الآن.
لقد لعبت قبائل قنا دوراً وطنياً لا يمكن تجاهله عبر مراحل التاريخ المختلفة، وتحديداً خلال السنوات الست الماضية، والتى أعقبت أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011، حيث تولت رموز هذه القبائل الإشراف على تجييش شباب العائلات لحماية أقسام الشرطة والمنشآت الحيوية فى البلاد والحيلولة دون سيادة الفوضى، كما حدث فى العديد من المناطق الأخرى.. وقد استضافت قبيلة «الأشراف» مؤتمراً حاشداً ضم رموز القبائل الأساسية فى قنا، وكان الهدف منه هو بحث آليات حماية الأمن والاستقرار فى المدينة والقرى المختلفة جنباً إلى جنب مع قوات الأمن ورجال القوات المسلحة، ولم يتخلف عن ذلك قبيلة واحدة.
وكان الأقباط قاسماً مشتركاً فى كل الأزمات والملمات، جنباً إلى جنب مع القبائل الأساسية المكونة لأبناء هذه المناطق، ولم تشهد قنا حادثاً إرهابياً واحداً ضد الكنائس التى تقع فى قلب المدينة أو أطرافها، بل كان أقباط قنا، وفى مقدمتهم نيافة الأنبا «بيمن» ونيافة الأنبا «شاروبيم» ونيافة الأنبا «كيرلس»، يتصدرون المشهد الوطنى، وكانوا طرفاً فاعلاً وقوياً فى أحداث ثورة الثلاثين من يونيو التى أودت بحكم الإخوان إلى غير رجعة.
وفى الأحداث الأخيرة التى طالت خلالها الاتهامات عدداً ممن ينتمون إلى بعض القرى والقبائل، كان رد الفعل القنائى سريعاً، فقد سادت المناطق موجة إدانات سريعة، ورفض لهذه الأعمال الجبانة والخسيسة، وتواصل رموز القبائل مع رموز الكنائس معزين ومتضامنين، وأصدروا البيانات ورفعوا اللافتات التى تشجب هذه الأفعال الإجرامية الغريبة.
إن ما لا يعرفه الكثيرون عن طبيعة العلاقة التى تربط بين أبناء المجتمع القنائى والأقباط تجسده الأفعال والمواقف فى الأفراح والأتراح والمناسبات المختلفة، وخلال الأيام الماضية توقف الكثيرون أمام هذا المشهد الرائع الذى يؤكد على قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد، فقد شهدت قرية «المحروسة» بقنا فى شهر فبراير الماضى عرس ابن المقدس «زكرى حنا محارب» أحد أبناء القرية، حيث جاء فى الدعوة الموجهة لأبناء المناطق المختلفة أن العرس سيتضمن «تلاوة آيات من القرآن الكريم والإنجيل خلال حفل الزواج». ولقد طبع على كارت الدعوة آية من سورة الروم وجزء من إنجيل (متى 19)، وساعتها قال يوسف زكرى حنا، شقيق العريس، إن الدعوة جاءت بهدف مشاركة إخواننا من المسلمين فى فرحنا، كما يشاركوننا أحزاننا، وكما نشاركهم نحن أيضاً فى كل المناسبات. وعندما أبدى البعض دهشته، رد عليهم يوسف زكرى بأنه لا وجه للغرابة، فالعلاقة بين أبناء هذه المناطق تقوم على أساس الأخوة والوطنية والانتماء، وذكر أن جده أحيا فرح والده عام 1964 بليلة قرآنية أحياها الشيخ «الكلحى».
ويشارك أساقفة المحافظة فى إنهاء الخصومات الثأرية بين بعض العائلات، والمناسبات الوطنية المختلفة، جنباً إلى جنب مع رجال الدين الإسلامى وعلماء الأزهر الشريف.
وقد كان الاحتفال بالعيد الفضى للأنبا «بيمن» مناسبة مهمة عكست مشاعر الأخوة والسماحة الدينية، حيث تجمع آلاف البشر من المسلمين والمسيحيين للاحتفال بقاعة البابا شنودة بدير «رئيس الملائكة» بحاجر المنشية ليهنئوا نيافة الأنبا.. لقد وجه قداسة البابا «تواضروس الثانى» رسالة إلى المحتفلين فى هذا اليوم بقوله: «يا بختكم بالأنبا بيمن» فرد عليه أبناء قنا شاكرين وممتنين ومعتزين بنيافة الأنبا «بيمن» وجميع الأساقفة فى عموم محافظة قنا، وهو ما أكد عليه نيافة الأنبا «بيمن» بالقول: «إن شعب مصر سيظل دائماً نسيجاً واحداً، لا تستطيع أى قوة أن تفرق بين أبنائه». إن الوضع القبلى فى قنا، لا يعكس تعصباً لفئة أو قبيلة بعينها، بقدر ما يؤكد على القيم الأخلاقية الراسخة فى أذهان أبناء هذه القبيلة والعائلة، ومن هنا تبدو الدهشة من هذه الاتهامات التى طالت قبائل عريقة لا يزايد أحد على دورها الوطنى والاجتماعى وقيم التسامح الأصيلة الراسخة فى أذهان وثقافة أبنائها.
وإذا كان البعض من الشاردين قد سقطوا ضحية لبعض الأفكار «التكفيرية» الغريبة عن الدين والقيم، فهذا أمر ليس بمستغرب فى وقت تواجه فيه مصر تحديات من الخارج ومؤامرة من الداخل. إن ذلك لا يضر أبداً بسمعة القبيلة أو المنطقة حتى لو ثبتت إدانة كل من وردت أسماؤهم، فوسائل الإعلام التى تتحدث عن عدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة وتنسبهم إلى قبيلة الأشراف، ينسون أن هذه القبيلة يبلغ تعداد المنتسبين إليها فى أرجاء البلاد ما لا يقل عن ستة ملايين مواطن.
إن صعيد مصر يلفظ من جسده أى عناصر تخرج عن منظومة القيم الدينية والوطنية والأخلاقية السائدة فى المناطق والقرى المختلفة، ولا يسمح أبداً بالنمو السرطانى لها، ويواجهها ويحاصرها بكل حسم، وبلا تردد، ولذلك يتوجب معالجة هذا الأمر بقدر من الحرص، وبعيداً عن أحكام التعميم، والاتهامات الجزاف التى يطلقها البعض ممن لا يعرفون جوهر الصعيد والمنظومة الحاكمة فيه. إن معالجة هذه الأوضاع «النشاز» تحتاج إلى فهم صحيح لقضايا الصعيد ومشاكله وأزماته، تحتاج إلى مواجهة حاسمة للأفكار التكفيرية التى يطلقها بعض الذين يعتلون المساجد والزوايا فى أنحاء متفرقة من القرى والمناطق الجبلية البعيدة.
إن غياب دور الثقافة فى هذه المناطق، وتجاهل المواجهة الفكرية مع بعض من يتشيعون لهذه الأفكار يوجب مراجعة الخطط وضرورة الاستعانة برجال الثقافة والفكر والمستنيرين من رجال الدين.
إن الأسباب التى أدت إلى الأحداث الدينية الأخيرة لا يجب أن تمر مرور الكرام، ولا يتوجب تجاهلها والاكتفاء بالحلول الأمنية، فالقضية أعمق من ذلك بكثير، والمواجهة يتوجب أن تكون شاملة وفاعلة وقوية. إن الرهان على الدور المنوط بالمجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف مرهون أيضاً بالآليات التى سيمتلكها المجلس للمواجهة وإصدار القرارات الفاعلة والتصدى لمثل هذه الظواهر، التى لا يمكن إلا أن تكون نتاج غياب بعض الأساسيات التى يتوجب التعامل معها بحسم فى الفترة المقبلة. يبقى القول أخيراً، فليتوقف من يوجهون الاتهامات والأحكام ذات الصفة العمومية لحسابات لا تخفى على أحد، فالصعيد على خط النار والمواجهة، وقنا وقبائلها فى مقدمة الصفوف.