ظاهرة التطرف والإرهاب تعد المشكلة الأكثر تعقيداً التى يواجهها العالم مجتمعاً، وتعانى منها البلدان فرادى، وتصيب المجتمعات كالمرض العضال الذى يضرب أجهزته المناعية بقسوة، والظاهرة وفق هذه الصورة تبدو كالفيروس المتحور، الذى استطاع أن يكتسب مهارات القفز والالتفاف بعيداً عن الجرعات العلاجية المضادة. والتحور فى تلك الظاهرة وغيرها، بمعنى استيعاب دقيق لما يقوم به الخصم من تحصينات، ومن ثم القدرة على اكتشاف ثغرات جديدة ومختلفة تمكنه من النفاذ، من دون إغفال أهمية التسلح بالمزيد من القوة الذكية والشراسة التى تحقق استقراراً سريعاً داخل معادلة المهاجم والمدافع. التطرف والإرهاب ووصفهما هنا بالظاهرة المتحورة، استناداً لفصول التاريخ التى تشى بأنها قديمة بل وموغلة فى القدم والتجدد أيضاً، وقدر مرونتها الخبيثة برز فى تسلحها بكافة أشكال الدروع وانخراطها تحت معظم الرايات. وهذا مما يستلزم النظر إليه بالعناية الواجبة، فالظاهرة التى أخذت أشكالاً عسكرية وعرقية ومذهبية، وقبلها فى عصر الإمبراطوريات والاحتلال السياسى، عبر الحملات والحروب والعنصرية والأنماط المتعددة من الصراعات. لم يخل فصولها من تطرف عنيف، وإرهاب واسع مورس بحق أطرافها هنا وهناك، حتى الطبعة الدينية التى تقدم نفسها اليوم باعتبارها المنتج الأحدث المعاصر، ليست النسخة الأولى من التطرف والإرهاب باسم الدين، فقد طالت الأديان جميعها من قبل أتباعها، منذ عهد الفراعنة وصراعات أتباع الآلهة المتصارعة على المعابد وكراسى الحكم، وصولاً إلى المشهد الراهن، وما بينهما ملىء بما يضع الظاهرة فى سياقها الصحيح الذى يسمح بمقاربة واقعية معها. التراكم والتجارب السابقة تكشف لنا بداية أن هناك مناخات تساعد على انتشار التطرف والإرهاب، وفى المقابل هناك قدرة على تصنيع مناخ عام، تدفع مكوناته المتجانسة على طرد ونبذ هذا الفيروس، والإصرار على حصار أعراضه وكشفها مبكراً يجفف سريعاً المجالات الحيوية التى يبحث عنها. والصدق هنا يستدعى بداية أن نلقى نظرة مدققة على المناخ الذى يساعد على نمو وتكاثر ظاهرة التطرف والإرهاب. الجنود المثاليون لصناعة التطرف والسباحة عكس التيار القويم، هم الشريحة الشبابية التى بدأت تضم من هم أدنى قليلاً «الصبية»، لذلك منطقياً أن تكون منظومة التعليم وتربية النشء وكافة ما يرتبط بهما من أنشطة، هى مكون رئيسى لهذا المناخ. فالتعليم الروتينى الشكلى فى معظمه، عندما يبتعد وينشغل عن صناعة عقول ناقدة قادرة على الاشتباك مع القضايا والمفاهيم الحديثة، ويصير جل اهتمامه سجن الامتحانات والدرجات، هو فى حقيقته يصنع شخصيات هشة تفتقر لثراء التجريب والابتكار. ويبتعد بها أكثر عن مساحة النشاط الذى بطبيعته يرسخ مبادئ القيم، بل إن البعض من تفاصيل السجن المشار إليه يضع الشاب الصغير أمام اختلالات قيمية ستصاحبه طويلاً، بسبب التعاطى المبكر معها. المعلم الساذج والجامد هنا أشد خطراً من المعلم الفاسد، وإن كان جميعهم يسهم فى صياغة الفوضى والتسطيح العقلى، تماماً كغياب التربية الوطنية الجادة وأخلاقيات التواصل مع الغير، أو وجودهما الشاحب، فتأخذ لدى الشاب مكانها فى نهاية سلم اهتماماته. لينتقل من مناخ غير قادر على إشباعه والإجابة عن أسئلته، إلى آخر أكثر اتساعاً وتشابكاً يرفض أسئلته من الأصل بل ويمعن فى حرمانه منها ومن طرحها. رغم أهمية ومحورية دفعه فى تلك المرحلة للبحث عن إجاباتها، بتوفير المنتج الثقافى الشامل الذى يمكنه التجاوب معه، بل ودفعه إلى مناطق الإبداع الأكثر رحابة، لكن التشويش هنا يكمن فى غياب العقول الواعية المنفتحة القادرة على شق المسارات أمامه. من المكونات الأساسية للمناخ المثالى للتطرف، هو غياب العدالة أو ارتباكها، بكل أنماط تعثرها فى السيطرة على أطراف المشهد، الذى سيقابله شاب يخطو خطواته الأولى فيه، فعدالة حلمه بالمستقبل، بجانب عدالة سلوكه المسار الذى يتسلح بعدالة اختياره، ربما يوازى وجوب عدالة الحصول على حقوقه من المجتمع والدولة، ومراوغة أى من المجتمع أو الدولة فى سداد تلك الاستحقاقات، والتعلل بذرائع واقعية أو مزيفة أو كليهما، مما يدفع للبحث عن عدالة موازية. فالضائقة المالية لا تصنع مناخاً منتجاً للتطرف، بقدر الضائقة العقلية والحركية التى يكون الشاب هو الأسرع إلى التقاطها، والمبادر برفضها والصراخ منها، وعادة ما يكون ذلك بداخله. وهذا الصراخ ومكونات ألمه من محفزات امتداد المناخ المثالى، فالأسئلة موصدة من البداية والعدالة مرتبكة والعقول القادرة على التفاعل بعيدة بالقدر الذى لا يسمح لها بتقديم يد العون، فالمناخ حينئذ من دون شك مرشح للتعقيد والتراكم. الأشكال والأنماط الكرتونية هى من أبرع وأخبث صناع المناخ المثالى للتطرف، فالوظائف الكرتونية الفاقدة للرسالة، والإعلام الكرتونى الخالى من صناعة القيمة، والفكر الكرتونى الهامشى الذى لم يجتهد ليشتبك مع القضايا الحقيقية، وغيرهم من الهياكل التى لا تصيغ شيئاً جاداً يفرض احترامه وتقديره. هى التى تعطى الفيروس سماحاً مجانياً بالقدرة على اختراقها، والسخرية والعبث بها وتشكيل حالة عدائية معها، تتطور منطقياً لرغبة محمومة فى تحطيمها واستبدالها بأنماط أكثر انحطاطاً وتزييفاً، لكنها تظل وفق المنطق المتطرف داخل إطار صناعة البدائل، ولا عجب حينها أن تكون البدائل من نوعية تدمير القائم غير المرضى بحثاً عن النقاء المتخيل. ولذلك سلك التطرف مزالق مرعبة كالتطهير العرقى الذى لم يتورع عن حصد أرواح عشرات الآلاف، بذريعة البحث عن المناخ الأفضل، أو تفخيخ الانتحارى ودفعه للهدف الأكثر إيلاماً بدعوى النجاة ومرضاة الله.