ما بين 27.000 و31.000 مقاتل أجنبى وعربى رصدتهم «مجموعة سوفان» الأمريكية المتخصصة فى التحليل الاستراتيجى بسوريا والعراق، ثلثهم عادوا لبلادهم، أو هاجروا لبلدان أخرى، ما يعنى بقاء نحو 20 ألفاً، مما يتفق وتقدير لجنة الأمن الوطنى بالكونجرس، مركز مكافحة الإرهاب فى لاهاى قدر قتلى «داعش» بـ14% من التنظيم، تقرير جيل دى كيرشوف، المنسق الأوروبى لمكافحة الإرهاب المعروض على وزراء الداخلية والعدل بشأن «دواعش أوروبا» نهاية 2016، قدر عددهم بـ5000 مقاتل، قُتل منهم 750 -وفق تقديرات مركز مكافحة الإرهاب بلاهاى- وعاد لبلاده قرابة 1750، ما يعنى وجود 2500 أوروبى، بخلاف 2200 تركى، وقرابة 200 أمريكى.. تونس تتقدم الدول العربية بـ6000 مقاتل، تليها السعودية 2500، الأردن 2000، المغرب 1200، لبنان 900، ليبيا 600، أما المصريون فيتفاوت تقديرهم من 300 إلى 10.000 نتيجة لصعوبة التمييز بين المتطوعين، والإخوان الهاربين بعد 30 يونيو.. مع قرب انتهاء الحرب بسوريا والعراق بعض المقاتلين سيفضل التنقل بين دول المنطقة، والآخر قد يتجه لدول مثل الفلبين، قبل أن يعودوا جميعاً لبلادهم كـ«قنابل موقوتة»، موقع «دى فيلت» نشر دراسة ألمانية أكدت ندم 10% فقط من «العائدين» بعد أن ضللهم التنظيم، مقابل 48% ظلوا ملتزمين بأيديولوجيته وعلى اتصال بأعضائه، ما ينبه لحجم المخاطر المنتظرة.
مصر تعانى إرهاب «العائدين» منذ ربع قرن، عنف «العائدون من أفغانستان» انفجر فى التسعينات، على أيدى عناصر الإخوان وطلائع «الفتح» و«الجماعة الإسلامية».. لحق بهم «العائدون من البوسنة والهرسك»، فى معارك تصفية المسئولين والرموز وتفجير البنوك وقتل الأقباط واستحلال أموالهم، حتى انتهت نسبياً هذه الموجة الإرهابية بمبادرة وقف العنف والمراجعات الفقهية 2002.. سنوات قليلة ووصل «العائدون من العراق» الذين انخرطوا فى أنشطة القاعدة وجماعة «أبومصعب الزرقاوى»، قاموا بتفجيرات «شرم الشيخ، الأزهر، طابا، والحسين»، لحقهم «العائدون من اليمن» الذين فروا من السودان بعد ترحيل أسامة بن لادن والظواهرى وعناصر «القاعدة»، وتكررت مراجعات السجون بقيادة سيد إمام 2008، «العائدون من ليبيا» انخرطوا فى العمليات التخريبية بعد سقوط الإخوان، وأخيراً بدأت مرحلة «العائدون من سوريا».. هى إذن ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة متجددة، تفرض مواجهات جذرية!
معظم الدول الأوروبية تسعى لمنع عودة مقاتليها، أما من يصر على العودة فتفرض عليه شرط الحصول على موافقة مسبقة، والمثول للمحاكمة؛ أو يوضع رهن الإقامة الجبرية، أو يخضع لمراقبة مشددة.. الدنمارك لديها برنامج لإعادة تأهيلهم ودمجهم فى المجتمع.. ألمانيا بها مشروع «حياة» يرتكز على أن المبادرة بزج العائدين بالسجون تشجع التطرف، لذلك تسعى لتقييمهم وتوجيههم وإرشادهم، ومحاولة دمج من لديه القابلية.. ثمن فادح سيدفعه حسنو النوايا مع من لا يقدرون سوى الدماء.. هولندا قررت إلغاء صلاحية جواز السفر والبطاقة الشخصية من المتجنسين الذين يشاركون فى تنظيمات أو أعمال إرهابية بالخارج أو الداخل، وفرضت قيوداً على سفر المشتبه بهم.. أمريكا أرسلت70 مدعياً إلى 14 بلداً، 10 بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و4 فى البلقان، لحضور التحقيقات مع «العائدين»، ومؤسسة راند أعدت تقريراً للجنة الأمن القومى بالشيوخ حول آليات منع دخول «العائدين» حاملى الجوازات الأوروبية المشمولة بالإعفاء من التأشيرة VWP.. الأردن يجاور التنظيم بسوريا، تونس تجاوره بليبيا، قدراتهما محدودة، وأجهزتهما الأمنية منهكة، يتطلعان لأوروبا لدراسة آليات تحديد واحتجاز وإعادة تأهيل المتطرفين، لكن الرأى العام رافض لذلك، العائدون شنوا هجمتين بمدينة الكرك، وطرح مشروع «قانون التوبة» أثار احتجاجات تونسية رددت «لا حرية للإرهابيين».
لا يوجد بمصر قانون يمنع عودة الإرهابيين، ولا مجال لمحاسبتهم إلا بتهمة القتال فى جيش خارج حدود الوطن، التى تخفف عقوبتها أو تسقط عن المبادرين بالاعتراف.. العودة ليست بدافع التوبة، أو التراجع عن الفكرة، أو حنين للأهل والوطن، إنما نتيجة لهزيمة، واستجابة لضغوط، وقد يسعون لإثبات إمكانية نجاح الفكرة فى أوطانهم.. فقدان التنظيمات التكفيرية للموارد المالية سيعجزهم عن تمويل التنظيمات المحلية التابعة، كـ«أنصار بيت المقدس»، وتمويل القبائل التى تقطن مناطق نفوذهم، وتعمل لحسابهم، وهو ما يحدث حالياً بسيناء، مما يدفعهم لتشكيل «خلايا جنائية» مهمتها توفير التمويل الذاتى توطئة للاستقلال عن التنظيم الأم، إضافة لفتح خطوط تعاون مباشر مع أجهزة مخابرات معادية، بعض العائدين التحقوا بحركات إخوانية «المقاومة الشعبية، العقاب الثورى، وثوار بنى سويف».
ثقافة العمليات الانتحارية وردت لمصر بصحبة «العائدون»، استمارات انتحاريى «داعش» المتسربة من ملف «الشهداء» تضم 121 حالة، مصر تحتل المركز الرابع بـ12 انتحارياً، لا يسعون لمقابل مادى، وإنما بوعود بالجنة والحور العين، ويؤمنون بتصنيفات فاسدة للمؤمنين والكفار.. مصر فى قلب الأزمة، لأن تلك الوعود والتصنيفات يرددها مشايخ السلفية على مدار الساعة، وقياداتهم تتباهى بدورها فى تسفير الشباب وإيفاد الدعاة والوعاظ والأطباء، والتنسيق بين الجماعات ضد الجيش السورى.. مصر قيدت السفر إلى تركيا وقطر وسوريا والعراق وليبيا، وذلك بعد سنوات من الانفلات سمحت للمتطوعين فى صفوف التنظيمات الإرهابية بالعودة مرة كل شهر، التزاماً بتأشيرة تركيا!!.
تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع الخلية التى استهدفت فندق القضاة بالعريش، والكتيبة 101، وبعض الكمائن الأمنية، أكدت تأسيس خلايا جديدة بالمحافظات ذات الظهير الصحراوى، لتدريب العناصر التى يتم تجنيدها على حمل السلاح، لتوسيع نطاق عملياتهم.. عملية البطرسية مؤشر على تحول فى أهداف التنظيمات الإرهابية، باتجاه الهجمات الطائفية، والاستهداف الجماعى للمدنيين، وهو مؤشر ينم عن إحباط تلك التنظيمات، بعد فشلها فى تجنيد العدد الكافى لإحداث الفوضى المرجوة، لكن مثل هذه الهجمات فشلت خلال التسعينات فى إيجاد قاعدة تأييد شعبية يمكن الاستناد عليها، وستفشل مجدداً.. ملف «العائدون» يفرض اهتمام الأجهزة الأمنية وكل مؤسسات الدولة، لأنه يرتبط بملف اللاجئين والهجرة غير الشرعية، وطبيعة المناخ الاجتماعى الذى يوفر الحاضنة الاجتماعية للإرهاب، ما يفرض بذل جهد توعوى، وتعاون -لا تنافر- بين مؤسسات الدولة والأزهر الشريف لمحاصرتهم.. الأزهر الوسطى يلعب دوراً فى مواجهة الفكر المتطرف، لا يمكن أن يمارسه غيره.. وحتى لو اختلفنا مع رفضه تكفير داعش، فلا ينبغى الانسياق لمحاولات هدمه، بل احترام رؤيته فى أن وسطيته تفرض عليه ألا يرد على التكفيريين بتكفيرهم، وأن لا يحكم بالكفر على من يجهر بالإيمان بالله وباليوم الآخر، ولنتدبر وصفه المنتمين للتنظيم بأنهم «بُغاةٌ محاربون لله ورسوله ومفسدون فى الأرض، يجب على وُلاة الأمر قتالُهم ودَحرُهم وتخليص العالم من شُرُورِهم».. ترى هل هناك مؤمن يحارب الله ورسوله ويفسد فى الأرض؟!.