المواجهات المُستعرة الدائرة بين مؤسسات مصرية لا تهدأ، وإنما تتزايد يوماً بعد يوم، وتؤكد كلها أن فقه الأولويات فريضة غائبة، وأن الرؤية المستقبلية مرتبكة وخطاب المرحلة متدنٍ.
المواجهة بين مؤسسة الأزهر ومعارضيه نموذج، المعارضون يطلقون اتهامات بلا حدود تصل إلى اتهام المؤسسة بتربية وتنشئة وتهيئة الإرهابيين، وفى المقابل يرد علماء المؤسسة باتهامات متجاوزة لمبادئ الشرع نفسه تصل إلى مستوى التكفير والتخوين.
وهكذا دون الخوض فى تفاصيل مواجهات سابقة ولاحقة مع القضاء.. مع الصحافة.. مع الجمعيات الأهلية.. حتى فى الرياضة، تجرى وقائعها كلها بعيداً بالقطع عن مفهوم حوار مجتمعى جاد «مش حوار مجتمعى هزلى» يتم انتقاء مكوناته بالاسم والسن والعنوان على المقاس.
إذا كان الغرض هو تطوير التشريعات وما يترتب عليها من مواجهات بين المعنيين بكل تشريع، فالبادى أن تزايد عدد المواجهات واتساع دوائرها يعكس ارتباكاً فى خطط التطوير وغياب أى تصورات للتعامل مع الأطراف المعنية وأخطاء إجرائية عديدة.
فلا يمكن تصور مؤسسات دولة راغبة فى المواجهة والصراع بمثل هذه الحالة، لأن النتائج مؤلمة والتداعيات ليست بالهينة، والمؤكد أن الدول تتعامل بحكمة وحنكة مع مشكلاتها، خصوصاً إذا كانت بين مؤسسات وليست بين جماعات سياسية.
واللافت هو ذلك الخطاب المتعصب المتطرف والمتدنى أحياناً الذى تستخدمه أغلب الأطراف فى التعامل مع أزماتها دون التفات إلى قواعد يجب أن تحكم اللعبة السياسية قبل أن تتحول إلى لعبة من نار.
والمثير أن المواجهات التقليدية تجرى بين الأحزاب السياسية وخلافاتها على البرامج الاقتصادية أو الإجراءات الاجتماعية أو حتى الرؤى الديمقراطية، لكن فى الحقيقة الأحزاب غائبة تماماً عن المشهد، وتركت فراغاً ربما هو السبب وراء مواجهات مؤسسات الدولة بعد أن غابت كل أشكال الصراع السياسى المعتاد بين الأحزاب والمؤسسات على سياسات تتعلق بالشعب ومصالحه.
هل غابت فريضة الحوار إلى هذا المستوى عن المجتمع؟ وهل تراجع فقه الأولويات إلى درجة تفقدنا الوعى بالاتجاه وبالمصلحة وبالأهداف المطلوبة؟
إشعال الحرائق يومياً أصبح مهنة. وبدلاً من الحوار والتفكير فى خطوات للمستقبل، حلَّت التلاسنات والمواجهات ومحاولات السيطرة، حتى إن نُبل الأهداف تاه وسط الأصوات المرتفعة المتلاسنة.
يبدو أن البعض تصور وتخيل أن معركتنا مع الإرهاب تراجعت، وأن الأمور استقرت ودانت له فانطلق يميناً ويساراً يعبث بمقدرات البلاد وهو غير منتبه أن معركتنا الأساسية والجوهرية ما زالت قائمة بل هى فى بداية الطريق تحتاج إلى المزيد والمزيد من التماسك والتوحد السياسى.
إعادة ترتيب البيت من الداخل مسألة بالغة الأهمية، ويجب أن تتم فى إطار القواعد المستقرة المتعارف عليها، تحتاج ليقين بأن الجميع مسئول ويجب أن يشترك فى العملية المطلوبة، وأن للخلافات حدوداً لا يجب تجاوزها، ولمؤسسات الدولة هيبة وتاريخ يجب احترامهما.
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، لكن لو غاب الشعب فلا أمان.