«هذا زمن الجدب الأعظم/ فلا يعرف مقتول من قاتله ومتى قتله/ ورؤوس الناس على جثث الحيوانات/ ورؤوس الحيوانات على جثث الناس/ فتحسس رأسك/ فتحسس رأسك».
يمكنك تذكر واستلهام بعض تلك الأبيات من قصيدة للشاعر الراحل الكبير «صلاح عبدالصبور» لاستجلاء ظواهر تداعيات الرعب، وتفسير أسرار الدماء المتناثرة والأشلاء المتطايرة، والإرهاب السادى الجنونى.. ويبدو ما حدث مؤخراً بتفجير كنيسة «مارجرجس» بطنطا وكنيسة «المرقسية» بالإسكندرية موصول الصلة بالتفجير الذى تم فى الكنيسة البطرسية فى العام الماضى، بل بمعظم الأحداث الإرهابية التى تلطخ جبين الوطن حيث يتقمص الجميع شخصية ضابط المباحث (كولومبو) وتنشط غدة الفضول الأمنى والاستقصاء المباحثى مصحوبة بتفسيرات ضيوف برامج (التوك شو) العباقرة من المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين والنشطاء الأيديولوجيين والمخبرين الصحفيين والنخبويين الجهابذة والمثقفين الحنجوريين.. يتبارون فى تحديد شخصيات الإرهابيين وملابسات الحوادث الإرهابية، وطريقة التفجير، وحجم الخسائر، ونوعية انتماءات القتلة.. هل هم الداعشيون العتاة أم الإخوان الدمويون أم جماعات أخرى ترتدى ثياب الدين وتتاجر بالدم.. والنتيجة أنهم يختلفون ويتشابكون ويتناحرون ويتناقضون فى تعدد أشكال الحبكة البوليسية، وخيال كتاب السيناريو وأفلام الأكشن.. وينحصر اهتمامهم -كالمعتاد- فى استخدام حرفى الاستفهام (مَن.. وكيف).. من الجانى وكيف ارتكب جريمته وقد ينضم إليهما حرف الاستفهام الثالث (ما).. والمقصود به إلى أى تنظيم إرهابى ينضم القاتل.. أما الأسئلة الأهم حول دوافع الجريمة وأسبابها وأهدافها ودلالات تصاعد الإرهاب ومغزى ما حدث، وهل توجهاتنا فى التصدى لهذا الإرهاب وتصفيته والقضاء عليه تتحرك فى الاتجاه الصحيح أم لا.. فهى أمور لا تشغل بالهم.. إنهم دائماً ما يتركون الجوهر ويبحثون فى القشور.. لذلك فحسناً ما فعل الرئيس عبدالفتاح السيسى بالإسراع بكشفه عن منفذ العملية الإرهابية السابقة المتعلقة بأمر التفجير الذى تم فى الكنيسة البطرسية، مشيراً إلى أنه فجر نفسه داخل الكنيسة الأثرية وذلك خلال مشاركة الرئيس فى الجنازة العسكرية الرسمية للشهداء أمام النصب التذكارى للجندى المجهول بمدينة نصر برفقة قداسة البابا تواضروس.. فقد حسم اللغط المثار وقتها فى الشارع المصرى حول شخصية الإرهابى وإلى أى التيارات المتطرفة ينتمى.. حيث أكدت المعلومات أنه أحد عناصر ولاية سيناء الإرهابية.. وهو هارب إلى سيناء منذ عامين من حكم بالسجن بتهمة إحراز قنبلة وسلاح آلى.. وأنه يعتنق الفكر التكفيرى.. ونفذ العملية مع صديقه وزوجته اللذين تم القبض عليهما والعثور على حزامين ناسفين بحوزتهما.. كما شارك المتهم فى اعتصام «رابعة» الذى نظمه التنظيم الإخوانى الإرهابى.
وقتها أحسن البابا تواضروس أيضاً بالإسراع إلى التأكيد أن المصاب مصابنا جميعاً كمصريين منتبهاً إلى أهمية عدم تصنيف القضية تصنيفاً دينياً فمن زرع قنبلة أمام مسجد السلام بالهرم أدت لاستشهاد ضباط وجنود ومدنيين يؤكد أن الإرهاب يمارس ضد المصريين.
لكننا لا يمكننا أن ننكر فى الوقت نفسه -خاصة بعد تصاعد الأحداث الدامية لتشمل كنيستى «طنطا» والإسكندرية- ما سبق أن رأينا أنه يتناقض مع رد فعل «ياسر برهامى» بتصريحاته وفتواه الطائفية بتكفير الضحايا.. مما حدا بالنائب «ثروت بخيت» أن يطالب بإلقاء القبض عليه فوراً لسعيه لإحداث فتنة بين الشعب ورد عليه رئيس البرلمان: «فليكن ذلك إن قال ذلك فعلياً.. وجبت محاكمته فوراً».. لكن ذلك لم يحدث.. بل تكررت تلك التصريحات بعد التفجيرين الأخيرين.. والتصعيد يعنى أن المسيحيين بلا شك مستهدفين بقتلهم وتهجيرهم وترويعهم وطردهم من أرض الكنانة.
فهل يجوز أن يكون الحل الأمنى هو الحل الأمثل والأوحد وأن مواجهة الإرهاب تتم بنفس الإجراءات الأمنية التى لم تمنع وقوع جريمتى «طنطا» و«الإسكندرية»؟
إننا بذلك -كما صرح الأستاذ «سليمان جودة»- نتصرف مثل رجل غرق بيته فراح يجفف أركانه ناسياً أو منشغلاً عن إغلاق الصنبور الذى يتدفق منه الماء.
من هنا، فإن مواجهة التطرف لا سبيل لنجاحها إلا باجتثاث جذوره الفكرية لا التصدى لحوادثه الإرهابية التى تتفاقم وتتوحش وتتجاوز دوائر محددة نتصور أنها تتم لأسباب لها علاقة بقصور أو تراخٍ أمنى.. أو نتيجة عدم تشديد العقوبات الجنائية.. إن البيئة الحاضنة للإرهاب تفرض على الجهات البحثية فى شئون علم الاجتماع وعلم النفس دراسة تلك التربة الخصبة التى تتوافر فيها ظروف الفقر والجهل والمرض التى ساهمت مساهمة فعالة فى غسيل المخ الذى يمارسه التكفيريون لمراهقين يتجهون إلى العنف والتدمير والتحول السيكوباتى الذى يعكس كراهية وشراً لمجتمع يراه ظالماً يناصبه العداء ويحرمه من أقل حقوقه، لكن السماء سوف تنصفه وتضعه فى أعلى مراتب الجنة.. فمنذ أكثر من عشر سنوات وهؤلاء الإرهابيون الذين يعيشون ثقافة التحريم والتجريم والمصادرة قد أثروا تأثيراً خطيراً فى العامة، الذين اعتبروا أن تلك الخزعبلات أوامر ونواهى دينه ومسلمات فقهية لا تقبل المناقشة والمراجعة.. لقد ضيق الإرهابيون علينا الوطن.. فصار مدناً من ملح وليس أرضاً من بشر.. أضحى وطناً بلا خريطة ولا تفاصيل.. أتوا يحملون التوكيلات الإلهية لفرض فتاواهم المسمومة وتحريماتهم المفزعة.. احتكروا كتابة التاريخ وتغيير مناهج وعلوم الحضارات ليدونوا أسماءهم فى قوائم المبشرين بدخول الجنة.. ولن يأتى لهم ذلك -فى هذه المرحلة الحاسمة والمفصلية- إلا بشن حرب إرهابية على نسيج المجتمع المصرى المتحد باستبعاد الأقباط الذين يرون أنهم أقلية مجرمة كافرة تعتدى على حق الأغلبية فى تطبيق الشريعة، وبدء تنفيذ هذا المنهج الاستراتيجى بطردهم من العريش.. وتلاحق فى قتلهم بتفجير كنائسهم.. بل إن شريط داعش الأخير -الذى أشار إليه د.عمرو الشبكى فى تحليله للموقف- يحمل خطاباً تحريضياً لم يُشِر فيه لمفاهيم أهل الذمة التى تبنتها الجماعات الجهادية فى سبعينات القرن الماضى.. بل تعامل «داعش» مع المسيحيين الآن باعتبارهم فئة سياسية باغية قبل أن يكونوا طائفة دينية يجب اضطهادها ووضعهم فى نفس مرتبة النظم التى يحاربونها ويصفونها بالنظم الطاغوتية أو المرتدة واعتبروا أقباط مصر امتداداً للصليبيين فى الخارج ولنظام السيسى فى الداخل.. أى جماعة حكم مسئولة عن المظالم التى يتعرض لها المسلمون.
من هنا فإن دعوة «السيسى» إلى إنشاء المجلس القومى الأعلى لمكافحة الإرهاب ومواجهته أمنياً وتشريعياً بل فكرياً فى الأساس حيث يشمل الثقافة والفنون والإعلام، والتوجه الوطنى، وقيادة حركة تنوير شاملة.. هذه الدعوة تعنى بوضوح لا لبس فيه أن الاعتماد على الأمن وحده لا يكفى ومواجهة العنف بالعنف والإرهاب بالإرهاب لا تجدى.. فالحزام الناسف معناه أن المكفرين والإرهابيين لا يأبهون بالموت بل يحبونه ويرحبون به ويتلهفون لاستقباله.. فهذا هو الجهاد الأعظم من وجهة نظرهم..
إن تلك الردة الحضارية التى تسعى إلى إسقاط الدولة التى ترتدى وجهاً مدنياً وتجابه فاشية دينية وروحاً وهوى جاهلياً وطائفياً يزحف إلى عقل الكثير من الناس لا سبيل إلى مواجهتها إلا بالانحياز إلى حركة التاريخ التى تنحاز بدورها إلى التنوير والتطوير.. ولا تنتصر للجهل والظلام والجمود والإرهاب..
ما زال الأمل قائماً..