بطبيعته وتجربته وتاريخه، يميل المصرى إلى العيش فى الأرض السهلة المنبسطة، حيث يجرى النيل ويجلب معه الخصب، وعلى مدار تاريخ المصريين كان الجبل جزءاً مهمّشاً على خريطة تضاريس الدولة المصرية، يأوى إليه المطاريد والهاربون وعدد ممن تكونت لديهم رغبة فى الفرار من المجتمع، يُضاف إليهم أيضاً المهمّشون اقتصادياً واجتماعياً الذين وجدوا فى الجبل مأوى لهم، بعد أن بسط المقتدرون نفوذهم على الأراضى السهلة. خلال العقود الأخيرة، تنوعت وزاد حجم الأدوار التى يلعبها الجبل فى حياة المصريين، فلم يعد مجرد مأوى للمطاريد أو المهمشين وغيرهم، بل أصبح قبلة يقتبلها العديد من العناصر التى أعلنت الحرب على المجتمع والدولة فى مصر، المسألة ترتد بجذورها إلى فترة السبعينات، عندما ظهر شكرى مصطفى زعيم جماعة المسلمين -كما كان يطلق عليها أعضاؤها- أو جماعة التكفير والهجرة، كما يصفها الأمن. التكفير مفهوم، وهو موجّه إلى كل من يخالفهم فى الرأى، أما الهجرة فكانت تعنى النزوح إلى شعاب الجبال، والاستعداد للمواجهة. طرح شكرى مصطفى الفكرة فى مصر، لكن التطبيق الحقيقى لها جاء فى أفغانستان، خلال حقبة الثمانينات، حين آوى الكثير من أفراد الجماعات الإسلامية إلى جبالها، مدعومين بدول وأنظمة، ومباركة شعبية، لمواجهة الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وكما حملت الحقبة النفطية الأفكار الوهابية الصحراوية إلى مصر، حملت الحقبة «الأفغانية» الأفكار الجبلية إلى مصر، فصعد دور الجبل فى حياة الجماعات، وأصبح أعضاؤها يزاحمون المطاريد والمهمشين فيه، وبمرور الوقت يمكننا القول إن نوعاً من التناغم -وربما التنسيق- بدأ يحدث بين هذه الفئات الثلاث، فشكلوا فى ما بينهم شعباً يعيش فى دولة يمكن وصفها بـ«دولة الجبل». ربما كان جبل الحلال فى سيناء نموذجاً مثالياً لبلورة هذه الفكرة، ولا يخفى عليك المواجهة الشرسة التى تخوضها قوات مكافحة الإرهاب هناك، تلك المواجهة الممتدة طوال السنوات الماضية، وهى مواجهة تتشابه إلى حد كبير مع تلك المواجهة التى خاضتها القوات الأمريكية ضد المتشدّدين فى جبال الأفغان، سواء من تنظيم القاعدة أو طالبان أو داعش، ولعلك تابعت تلك الخطوة اللافتة التى اتخذها الأمريكان بإلقاء أم القنابل -وهى أقوى قنبلة تقليدية- فوق رؤوس الدواعش فى الجبال الأفغانية، وهى القنبلة التى لم تُخلف سوى بضعة وثلاثين قتيلاً فقط!.
القضاء على دولة الجبل ليس بالأمر السهل ولا اليسير، ومهما وجهت إلى من اتخذه موطناً من ضربات، فليس من المضمون أن تقضى عليه، لأن الجبل «حالة»، وليس مجرد بيئة تضاريسية، حالة معقدة يتداخل فيها الاجتماعى مع الاقتصادى مع الدينى مع القانونى، وأياً كان عدد من تقضى عليهم ممن يعيشون فى كهوفه، فإن ذلك لن يمنع من توالد عناصر جديدة تعيد كرة المواجهة مع العائشين والمسيطرين على الأرض السهلة. مواجهة الأسباب لا بد أن تسبق مواجهة الأذناب، فلكل ذنب سبب، وأخشى أن أقول إن الطريقة التى يواجه بها البعض المجتمعات التى تشكلت فى الجبال تغذى الأسباب التى أدت إلى ميلادها، وهو أمر يزيد من صعوبة المواجهة حتى لو استعنت فيها بأم القنابل الأمريكية!.