يوم الخميس الماضى، وقع حادث إرهابى فى شارع «الشانزليزيه»، وهو أشهر شوارع باريس، وربما أوروبا كلها، هو كذلك من أشهر الشوارع فى العالم كله، وبعدها مباشرة وقع حادث آخر قريب من محيط الشارع، ولم يعد غريباً وقوع حوادث من هذا النوع فى فرنسا، منذ حادث «شارلى إيبدو»، الذى حاول البعض من المتعاطفين مع الإرهاب والإرهابيين البحث عن مبرر له، لكن تكررت العمليات بعد ذلك، وفى مشاهد أشد بشاعة، خاصة فى «نيس»، قبل نحو شهرين كانت هناك محاولة لاقتحام متحف اللوفر، وصولاً إلى عملية «الشانزليزيه»، هذه العمليات تقطع بأن هناك خلايا إرهابية أو ذئاباً منفردة تعمل داخل فرنسا، وفى مدينة النور ذاتها.
فرنسا دولة علمانية، لم يرصد فيها تشدد وتطرف دينى، وليست لديها قضية تتعلق بتجديد الخطاب الدينى، ولا أزمة ثانوية عامة ولا مشكلة تعليمية وثقافية، باريس التى وقعت بها أحداث يوم الخميس، هى مدينة «السوربون» ومتحف اللوفر وبرج إيفل، ومركز بومبيدو الثقافى الضخم، ومقر منظمة اليونيسكو، ومقر معهد العالم العربى، وغير ذلك كثير، كل هذا لم يحل دون وجود إرهابيين وسقوط ضحايا، وحدوث تفجيرات وإطلاق رصاص على أفراد الشرطة ودهس المواطنين الآمنين.
ومن المهم ملاحظة أن معظم الذين قاموا بالعمليات الإرهابية فى فرنسا، هم مواطنون فرنسيون، بمعنى أنهم ولدوا فى فرنسا، تربوا فيها، تعلموا بمدارسها، وعاشوا فى ظل ثقافتها، ونظامها الاجتماعى والسياسى، فى حادث الشانزليزيه استعمل الإرهابى سلاحاً أوتوماتيكياً، وعثر فى سيارته على أسلحة أخرى، منها عدة سكاكين.
ونحن، فى مصر، نتعرض لعمليات إرهابية منذ ثورة 30 يونيو المجيدة، يشنها علينا تنظيم الإخوان، الذى هو نبع الإرهاب المتأسلم فى العالم كله، وكانت آخر هذه العمليات ما جرى يوم «أحد الشعانين»، 19 أبريل، فى كنيستى «مارجرجس» بمدينة طنطا و«المرقسية» فى الإسكندرية، جريمة الاعتداء على المصلين وهم داخل دار العبادة، جريمة مركبة، لأنها لا تمثل اعتداء على حياة أفراد فقط، بل اعتداء على دار عبادة، وعلى الديانة نفسها، وعلى معنى وحرمة «الدين» عموماً، وما إن وقعت الجريمة، حتى انبرى عدد من محللينا وخبرائنا فى العديد من الفضائيات، وفى وسائل الإعلام المختلفة، يوزعون الاتهامات باليمين وبالشمال، كان الاتهام إلى الأزهر الشريف وإمامه الأكبر، وبدرجة أقل إلى عدد من وزارات وهيئات الحكومة، مثل التربية والتعليم.. الأوقاف.. الثقافة وغيرها وغيرها، وتركوا الفاعل الأساسى، الذى هو جماعة الإخوان الإرهابية وحواشيها من الإرهابيين؛ وقدم بعض المحللين للرأى العام تصوراً مفاده أن مصر صارت بلداً للتشدد والمتشددين، وأن التطرف يمرح فى مصر جنوباً وشمالاً، رغم أن كثيراً من الشواهد تثبت غير ذلك، نحو 30 مليون مصرى نزلوا إلى الشوارع يوم 30 يونيو لإسقاط نظام حكم متشدد، وشهد المجتمع حالة من الانفتاح الحقيقى، أطلقت عليها قبل عامين «العودة إلى السفور»، ولعل المتابع لجريمة الكنيستين، يلحظ، قدرة الشعب المصرى الفذة على تجاوزها سريعاً، مما يحسب لهذا الشعب بأقباطه وبمسلميه، ولمؤسسات الدولة، بدا ذلك فى الحشود داخل الكنائس للصلاة ليلة عيد القيامة المجيد، وعدد الضيوف المسلمين الذين ذهبوا مشاركين ومهنئين، وفى اليوم التالى لعيد القيامة، كان يوم «شم النسيم»، وهو احتفال فرعونى قديم، احتفل به المصريون القدماء، وخرج الملايين يومها إلى الحدائق العامة، كان هذا الخروج يعلن للجميع أن المصريين قرروا أن يحتفلوا وأن يبتهجوا، وأنهم لن يسمحوا للإرهابيين أن يفسدوا عليهم حياتهم، والمعنى أنهم مقبلون على الحياة محبون لها، متمسكون بجذورهم التاريخية والوطنية، فى مواجهة دعاة الموت، وهذا ينفى كثيراً مما يقال عن التشدد العام.
لا يعنى هذا أننا برآء من المشاكل والأزمات، لدينا فائض منها، بعضها متراكم منذ عقود، وبعضها يحتاج إلى جهد جبار ومتواصل من كل الأطراف، مثل مشكلة الزيادة السكانية، التى يمكن أن تلتهم عوائد أى عملية تنمية، لكنّ لدينا إصراراً كبيراً على مواجهتها، وتحديها، والخروج منها، أما الإرهاب والتنظيم الإرهابى، فيجب أن ينظر إليه فى سياقه وفى تكوينه وهويته، بدلاً من أن نغض الطرف عنه، سهواً أو عمداً، ونلقى بالتهم يميناً ويساراً.
فى عام 1965، كانت مصر فى حال متميز، كان بناء السد العالى بدأ، وكانت مصر قبلها بعام -1964- أنجزت بنجاح خطة التنمية الخمسية الأولى، التى أشادت بها الأمم المتحدة، باعتبارها من أنجح خطط التنمية وقتها، ولم تكن هناك بطالة ولا أزمة اقتصادية كبيرة.. ولا.. ولا..، وكان الرئيس عبدالناصر أفرج عن المعتقلين اليساريين، وأعادهم إلى وظائفهم، وتمت مصالحة سياسية حقيقية، ويبدو أن «عبدالناصر» أراد أن يواصل هذا النهج، فأصدر قراراً بالعفو عن سيد قطب، وأفرج عنه قبل أن يكمل مدة العقوبة، وأفرج عن آخرين من تلك الجماعة وذلك التنظيم، فى تصور أن المصالحة يمكن أن تمتد ويعود الجميع إلى أحضان الوطن والمواطنة، ومع ذلك خرج التنظيم الإرهابى بعملية استهدف بها اغتيال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ونواب رئيس الجمهورية ورئيس المخابرات العامة ووزير الداخلية وعدد آخر من قيادات الدولة، واستهدف كذلك تدمير القناطر الخيرية لإغراق الدلتا وتدمير هيئة الطاقة الذرية فى أنشاص، وقتها كان التنظيم الإرهابى يعمل بأفكار «سيد قطب»، كان هدف سيد قطب من تدمير القناطر إغراق الدلتا بالكامل وتدمير حياة المصريين، عقاباً لهم على تأييدهم وحبهم للزعيم جمال عبدالناصر، لأن مصر صارت «مجتمع الجاهلية» وفق أفكاره.
باختصار، الإرهابيون موجودون الآن، فى كل مكان، المجتمعات الغنية والمجتمعات الفقيرة، فى الشمال والجنوب، على ضفتى المتوسط، ومن المهم أن نحاول فهم الظاهرة الإرهابية، ومن يقف خلفها، بدلاً من أن نبحث عن مبرر لها، يلقى بالاتهام نحو الآخرين، يقدمهم كبش فداء، ويبرئ ضمنياً الإرهابيين أو على الأقل يجعلهم، فى التحليل النهائى، ضحايا ومجنى عليهم.